Atwasat

الشعر بئر المتناقضات*!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 13 يونيو 2023, 11:58 صباحا
أحمد الفيتوري

حدّث محمود قرني فقال.
«إن الناقد، فرضت وظيفته أن يتحدث عن كلام الآخرين، إلى حد يريد، بالظاهر، إنهاءه، فهو كالكاتب، لا يملك أن يقول الكلمة الأخيرة. هذا الخرس النهائي الذي يشكل وضعهما المشترك، هو الذي يكشف الهوية الحقيقية للنقد، فالناقد كاتب.» – رولان بارت*
عش البشاعة،
في شارع الإذاعة،
قرب الكاتدرائية،
مزدحم بالغربان السود
النورس الأبيض؛
الذي في الصورة المعلقة،
في محل السفريات:
يرقب المشهد
مغتبطاً بمنفاه.*

الغلاف باذخ، وقماشته الألوان الزاهية!، الكتاب، كاتبه محمود قرني، عنوانه سؤال استنكاري: لماذا يخذل الشعر محبيه*؟!، السؤال مثلث الأضلاع: الخذلان، الشعر، الحب. إن الشعر مطلق يخذل مطلق محبيه، ليس طرفاً من الشعر، ليس الشعراء أو نفراً منهم. إجابة السؤال مقتضبة: إن الشعر «بئر المتناقضات» حدّث محمود قرني فقال.. في سفرٍ صغير حجم الوريقات، كبيرعميق الدلالة.

في المتن مقدمة: لماذا يخذل الشعر محبيه؟! ما تبدو (البيان الشعري القرني)، وفي فصلين وثمانية عشر مقالة، كما قصة القرني الشعرية أو شروح البيان. وفي هذا السِفر، المُسافر الشاعر محمود قرني يبتغى السَفر، الطريق ليس الطريقة: «الشعر غامض وهذه طبيعته، غامض ولو كان بسيطا»*. هذا يقين قرني القارئ/ الناقد من نظرية الشعر، ما طاردهُ كشاعر، عاركهُ فخبره، فإن مطاردة الغزالة في الصحراء لن يمسك منها غير وبر ضئيل. الحاصل أنه العطش لنظرية المعرفة لا نظرية البلاغة، التائه في الصحراء، الباحث عن قطرة تروي شيئاً من الظمأ، تحت ألسنة نيران وصهد الشمس، من تخلّص حتى من ملابسه، عندما وجد البئر كان عارياً، ليس من معين مثل أن يجعل ملبسه حبلا، لم يتوقف.. لم يراجع نفسه، فرمى بكله في البئر*.

هذا السِفرُ سِفرُ متناقضات في بئر المتناقضات، ليس أكثر ولا أقل، هذا اليقين الحارق، ما يؤجج ظمأ الشاعر والناظر للشعر، منذ الجملة الأولي المقدمة حتى حسن الختام: «الشعر غامض وهذه طبيعته، غامض ولو كان بسيطاً. وكم من شاعر عايش خساراته، بينما يرفض أن يكون جزءاً من أسئلة زمانه، مثلما فعل (هولدرلين) الذي رفض العالم الحديث كله، ومثل صعاليك العرب الذين أدمنوا حياة الاختطاف وقدموها على نمط الاستقرار النسبي، الذي رسخت من وجوده طرق التجارة وقوافلها، وكأنهم ينتصرون للـ (لا نظام)». هكذا حدّث محمود قرني فقال إن الشعر أزلي، من حيث إنه لم يتغير، وأن الشعراء لم يتغيروا: «وكأنهم محصنون ضد المستقبل»، هذه الجملة حمالة الأوجه، الدليل القاطع على تناقض الشعراء مع زمانهم ومع أفقه أيضاً، أما محمولها الغامض فمن الماهية الغامضة للشعر ولو كان بسيطاً!. وكأن الشعر عند قرني المفارق للزمن في كل التجربة الإنسانية والحياة البشرية، أي أنه الوبر الذي جني من مطاردة الغزالة.

الشعر في ذا السِفر، آدم قاضم التفاحة، منذ الخروج الأول وحتى قبل، ومن ذا يعاركه الدين ما يقونن البدء والمآل، فيما الشعراء «ينتصرون للـ (لا نظام)». وإن بيان الشاعر مرتكزه نظرية المعرفة، ما كانت نظر الفلاسفة العرب للشعرية العربية، باستثناء غير معلل بشكل مسهب للنقاد العرب، من مركزهم نظرية البلاغة، ونموذج البيان الفادح (حازم القرطاجني) صاحب (منهج البلغاء وسراج الأدباء)، الذي «رغم أنه يُعد واحداً من أهم مؤسسي النقدية العربية، إلا أن دعوته تظل واحدة من آثام الاتباعية، التي لا زالت تمثل شبه انتقائية، حتى لو فقدت الحماية الفقهية».

أوراق السِفر، تبين أن المبحث في ماهية الشعر وضرورته مبحث في الفن، الذي وإن تباينت أدواته فإنه الشعرية الكامنة في ألوان الطيف، فالشعر أس وماهيته الغامضة ما توكّد ضرورته، ضرورة الفن، ما الاختلاف حول ضرورته، نابع من غموض ماهيته السرمدية!. ولا يبحث البيان في الماهية إلا من خلال الضرورة، لهذا فأوراق السِفر تتباين في معالجة المسألة، من خلال سياقات مختلفة وقضايا آنية، لتوكّد بشكل قاطع أن مسألة الشعرية قديمة جديدة!، فـ «هذا الصراع لم يكن قصراً على الحضارة الإسلامية فحسب، بل يمثل صورة ممتدة في معظم الثقافات ذات الترجيعات اللاهوتية». والخلاف حول الوظيفة منزعه نظرة اجتماعية، ما تهيمن عليها القوة النافذة، التي تحرص على النظام.

أوراق السِفر تنزع إلى التوكيد على الماهية الواحدة السرمدية، فـ (بيان قرني) أن طبيعة الشعر الغموض، لكن هذه الماهية الواحدة تواجه ضروباً من الصراع حول الوظيفة، ما الاختلاف حولها ضارب في الزمان، لكن الآن وهنا يشير (بيان قرني) إلى أن «أخطر ما واجهه الشاعر الحديث عزلته المجتمعية، بعد أن كان مخولاً بامتلاك الصكوك الروحية، التي تمنحها القوة المجتمعية لشاعرها».

إن هذه العزلة ما طالت الشاعر، لم تفصح الأوراق عن: هل أنها طالت الشعرية مجملة؟ وبالتالي هل المقصود مثلاً كتابة الشعر المحض؟. فالسرديات الكبرى وفي مراحلها المتعددة لها عدة نظرات في الشعر، ومن هذا فالنظرية الشعرية ليست واحدة، بل وفي النظرة الواحدة تتنوع المستويات من إجلال الشعر إلى احتقاره. فالمقصد تمرحل النظرة، وفي سفر الكتاب نموذج صارخ لذلك هو الشاعر (والت ويتمان) على الخصوص، ثم الغياب الذي طال الشاعر البرتغالي بيسوا، فالجائزة ما وصلت متأخرة إلى محطة الشاعر البحريني قاسم حداد، مع الأخذ في الاعتبار، أن «لماذا يخذل الشعر محبيه؟»، لا يأتي بين أيديه بأي إشارة، إلي الشاعرين المهمين والإشكاليين في التجربة الشعرية وهما (اليوت وأزرا باوند).

ثمة ملاحظة يضيفها التمعن في متن السِفر، ما يجيء كما نقد تطبيقي لـ (بيان قرني) الشعري، أن من عماد ومرجعية نظرية الشعر في المتن ناقدان، هما المفكر طه حسين والناقد محمد مندور، ما يوحي باستبعاد نظرية الشعر، عن بعض ممن اعتبروا أنفسهم مدارس شعرية، بل وحتى لا تتم إشارة ما إلى أجيال من الشعراء سابقين ساهموا بشكل أو آخر، بالكتابة في نظرية الشعر كشعراء الستينيات والسبعينيات، وهذه ملاحظة عابرة لمقولات المتن الرئيسية، بمعنى أنها جانبية.

إذا انتبهنا إلى أن (بيان قرني) يمس الشعر ويتماس مع الشعرية، فإن الشعرية أس الفن في المتن وعلى ضفافه، مثل مقال «المخرج والناقد سيد سعيد ...وإرثه الصعب!»، هكذا نعيد السؤال بصيغة أخرى، ألم يخذل محبو الشعر الشعرَ؟، أم أن الشعرية المنسابة في كل الفنون هي الشعر، ما لم يخذل أحًدا فما بالك بمحبيه؟. في ختام مقال: "اللا طمأنينة... رد بيسوا على الذوق الجارح للواقعية!، يورد محمود قرني جملة بيسوا «إنني على يقين من أنه، في عالم متحضر تماماً لن يوجد غير النثر». وذا يعيد إلى ذهني مداخلة، وكّدها مراراً الناقد الليبي خليفة التليسي، أن العرب وصموا القرآن ساعة نزوله بأنه شعر، وأن النبي محمد شاعر، ولم يقيسوا ذلك على سليقتهم الشعرية العكاظية، ما بنى عليها الخليل قاعدة الشعر المقفى الموزون، ما في نظر التليسي أنها قصيدة البيت الواحد*.

وبعد ننوه بالأسلوب الشيق، واللغة البرهانية البلاغية في الكتاب!، النثرية التي هي من روح الشعر، النابضة بحيوية عقلانية ميسرة ومكثفة، دون تبسيط ولا إجحاف، مما يشير إلى أن للكاتب مميز الغوص في بئر المتناقضات، بتناقضات الشاعر الذي ينحو إلى نظرية البرهان ببلاغة الناثر، وهو الشاعر المُجد. ومن هذا تتشاكل الكتابة النظرية في الرؤية وفي أسلوب طرحها، مما يوكّد التواشج الضرورة بين النثر والشعر، دون انحياز لا عقلاني للقصيدة النثرية أو لنظرية شعرية ما، فالحديث عن مستقبل الشعر في عالم جديد في هذا الكتاب، بحصافة وفصاحة المتصوف، لا يتملق ولا يدّعي.

- (بئر المتناقضات) مستعارة من متن كتاب محمود قرني، المتناوَل في هذه القراءة.
- رولان بارت – النقد البنيوي للحكاية - ترجمة انطوان أبوزيد – كتاب الدوحة 101- أكتوبر 2019م.
- هذا نص من «قصيدة حب متأبيّة» الذي صدر لي سنة 2005م، ومناسبة صدوره أتاحت لي لقاء ومعرفة الشاعر محمود قرني.
- محمود قرني – لماذا يخذل الشعر محبيه؟!- حديث عن مستقبل الشعر في عالم جديد – دار الأدهم - القاهرة – 2021م.
- البدوي الذي يرمي نفسه في البئر – فحوى قصة قصيرة، للروائي والمفكر الليبي إبراهيم الكوني.
- خليفة التليسي – قصيدة البيت الواحد – الدار العربية للكتاب – طرابلس -1992م ودار الشروق بالقاهرة.
- الجمل الواردة ما بين العلامة:«....»، ولم يشر إلى المصدر، هي جمل مقتطعة من كتاب: محمود قرني – لماذا يخذل الشعر محبيه؟!.