Atwasat

بين ظلال الليل والنهار..!

سالم الهنداوي الأربعاء 07 يونيو 2023, 04:59 مساء
سالم الهنداوي

.. نحن كما نحن في هذه الحياة، بلا معنى في الزمان والمكان.. فلسنا أبناء الأمس كي نحزن ونبكي على أطلال الذكريات، كما لسنا أبناء الغد كي نبتهج بالمجهول.. نحن أبناء «اليوم» بحياتنا فيه، بحالاته الغريبة، وبتناقضاته العجيبة وأسراره الغامضة المريبة، وبخساراته المعلنة وخيباته الدفينة، بكل شيء فينا مفقود وبما نراه ولا يرانا في وقتٍ لم يعُد لنا، ولم نعُد نملك منه شيئاً..

.. هذا «اليوم» العجيب الغريب في حياتنا، ننهض له في الصباح متثاقلين بأوهامٍ كثيرة تركها لنا الليل وانصرف، فلا يرانا النهار ليبتسم في وجوهنا ويأخذنا إلى الأمل كما كنا نظن في الوهلة التي أشرقت فيه شمس الصباح ولم تكن تقصدنا حين سطعت على الأشجار الوارفة وسمعنا العصافير تغني لبعضها وسمعنا هديل الحمام..

.. هذا اليوم وشقيقه الذي فات بالأمس، يمضي في الساعات الطويلة عرضاً وطولاً، كما يريد، حاملاً الأمل الأبيض كنعش أسود على أكتافه يجوب الشوارع الفارغة إلى مقبرة الليل، حيث فانوس القبر بيد حارس الليل، وحيث ضوء القمر يهبط من السماء على رماد الأرض.. لا أحد يسأل الليل شيئاً عن النهار، فالصمت عنوان الوجوه الكالحة على أبواب المصارف والمخابز وعيادات الكلى والسكري والأورام، ولا صوت للوجع ولا أنين، كل الناس صامتة بعيون مشدوهة في الطوابير الطويلة، تخطو في الدقائق الباقيات في الحياة ثم تسقط على ظلها هامدة.

.. رأينا في النهار أعلام البلاد الباهتة هامدة على سراي الحكومة، وحارساً بليداً «يتف» على المارة تحت الرصيف، والباب الأسود المزركش ذا الضلفتيْن الكبيرتيْن ينفتح لموكب الوزير الذي لا يقرأ الجريدة، ويجلس على مقعد السلف الطالح يمهر الصكوك بتوقيعه الرديء، والسكرتيرة الشقراء تنفخ في عينيْه أثر رؤية الناس، وتنفخ في شفتيْه أثر العبارات غير المقصودة، مثل: عاشت ليبيا حُرّة أبية!..

.. كان الغبار من نصيب الناس في النهار، ومن نصيبهم أيضاً الحشرات والروائح الكريهة بفعل حرارة الشمس على القمامة والوزارة وطريق المطار وطريق السكة والمنتزه، فالشمس الساطعة تكشف عُري البلاد وعوراتها في النهار، وما ينتأ من عيوب الليل في أعماق السجون وأعماق الحصون وأعماق القصور، وأعماق الحانات العتيقة المعتمة بحكايات الغرباء الذين فرغوا من أحزانهم ومن شموعهم الواهنة ينتظرون الفجر للرحيل، يغمرهم الأمل في صحبة آمنة مع الضوء إلى مقاصد الروح والحنين خلف كل تلك التلال البعيدة التي تعلوها مواشير الشمس بين السحاب، وتعبرها الأسراب إلى كبد السماء، وبين أشجارها الوارفة تسقط الأشواق مع الظِلال..

طال صمتنا مع الطبيعة الراكنة، وكأننا في جمال اللوحة خارج المكان، والمدينة بلا عنوان ولا باب لها من جنوبٍ أو شمال، ولا قلب لها في ميدانٍ فسيح يعجُّ بالمتظاهرين العميان، يرفعون السارق على أكتافهم ويهتفون للوطن، حتى ليبدو في هدير الصوت أن الشمس انتصبت في المكان ولم تغادر الظهيرة.

لقد سرقوا النهار منا وجعلوه يوماً لهم، لرغباتهم النازعة وسطواتهم الغاشمة على كل شيء يطاله الضوء، الضوء الذي كان يدخل العيون ويدخل النوافذ وكوّة السجين.. الضوء الذي يسقط على الشجر والحجر وتأخذه الأنهار إلى منتهاها.. الضوء الذي يصنع الظِل للسامقات من بعيد، ويأخذ منّا الرؤى والنشيج.. الضوء الذي لم يعُد يكشف أسرار الليل بعد انتظارنا الطويل على جدران الوشوشات عند باب الحارس العنيد رهناً ببزوغ شمس الصباح لتأخذنا إلى أثر الطريق، وفي الدرب الطويل لا يخطئنا الأصدقاء حتى نصل إلى ملاذاتنا الآمنة في الديار، ولنحضن قبل المغيب من غبنا عنهم في الزمن وكانوا في انتظارنا يصعدون الربوات مع كل طلعة شمس.