Atwasat

سيرة مصرية

أحمد الفيتوري الثلاثاء 06 يونيو 2023, 12:20 مساء
أحمد الفيتوري

الحدود عند البشر مصطلح سياسي حديث، وهي غير الحدود التي تصنعها الجغرافيا الجازمة، ما لا تغير مجازها. لهذا حين ولدت عند الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط، على ضفاف الصحراء الكبرى، كان البحر حدًا فيما البرّ مسلكًا وأداة وصل. فصار برّ مصر برّي شئت أم أبيت، حتى إن وادي النيل كان نقطة الجذب لدائرته، فمصر يلخصها مثل ليبي في ذاكرتي: «يا خاش مصر منك ألوف».

من هؤلاء الألوف من دفعتهم الظروف، كما قذفهم النيل عنه، فساحوا وعاشوا في محيطه. فعند الطفولة، وفي دكان أبي، شاهدت فصاحبت مصريين، من العمال الذين أغلبهم من الجنوب (صعيد مصر)، يتبعون شركة عثمان أحمد عثمان الخاصة، قادمين من دولة القطاع العام!. ومن مفارقات ما دار حولي كطفل في دكان أبي لحظتها، دوي حواديت متفرقة بين المصريين وأبي، أبي المنحاز إلى الزعيم جمال عبدالناصر، من عمّاله كانوا منحازين لعثمان أحمد عثمان المهندس المقاول مالك الشركة. ورغم العلاقة الملتبسة بين النظام الملكي، في الدولة الليبية الناشئة، والنظام العسكري الناصري الذي انقلب على النظام الملكي في مصر، رغم هذه العلاقة الملتبسة، فقد درست في المدرسة الابتدائية منهجًا مصريًا بمدرسين ليبيين!، وفي الإعدادية درسني ممن درسني مصريون بمنهج ليبي.

الفول المدمس، بدا لي علامة دامغة لعمال مصر في دكانة أبي، وقد صاحب أبي بعضًا من أولئك العمال، من عاشوا لسنواتٍ طوالٍ في مدينة بنغازي، في حي الصابري بمحاذاة واحة نخيل «اللثامة»، حيث أُسكنوا معًا في بيوت خشبية من صنعهم تتبع الشركة. من أولئك العمال سي محمد الشامي الصعيدي المحنك، من جلب ذات مرة صبيًا هو ابنه البكري حربي، كان في عمري فتصادقنا، وزار بيتنا، ومن ثم في أول زيارة لي لمصر، زرتهم ببيتهم في حي العمال بالقاهرة (امبابة).

قبل حربي عرفت سرحان يجول في الغيط، يلتهم الجوافة، ثم ينام تحت شجيرة الجميز، كما جاء في كتاب المطالعة المنهج المصري للمدارس الابتدائية الليبية، لكن الشخصية المصرية التي استهوتني صبيًا وحتى الشيخوخة، (الكوميديان اسماعيل ياسين) ورديفه (عبد السلام النابلسي). ورغم خفة دم (اسماعين) وما يُشاع عن خفة دم المصريين، لم يتطرق إلى أذني ضحك عمال دكانة أبي، بل رأيتهم في صرامة أول النهار وجهامة آخره، فكان ذا قاعدة مفارقة عندي عشتها في سيرة مصر التي يُشاع أنها مرحة!.

من غيط سرحان تسربلت مصر نفسي، ومن جهامة عمال دكان أبي وعلامته المصرية.. علبة الفول المدمس، ولم يدمغني ذلك بأية علامة على الفقر أو الأمية، فجل لبس عمال الذاكرة الموشومة وكذا أكلهم، ثم معرفة الكثير منهم الكتابة، ما ينبئ بالعكس. كذا في ذاك الزمان حين يأتون الدكانة زرافات زرفات دون تدافع، ولهجتهم مثل انفعالاتهم واضحة ولا لبس فيها، من هذا لعلني أحببتهم، بعد اهتمامهم بي، ومن حُب أبي لهم خاصة (محمد الشامي).

وفي الدكان كان مؤشر الراديو على علامتين: القاهرة/ لندن وأغلب يومه ينقل الإذاعة الليبية، ومن مصادفات الطفولة أن ردّدت أغانيَ شدني إيقاعها، لأتبين في الكبر، أن المغنية التي أحببت دون معرفة: هدى سلطان، مَن أغانيها القديمة المنسية يمكن أن تشدني حتى اليوم.

المعروف أن مجلات الأطفال العربية، مؤلفة ومترجمة، تقاسمتها مصر ولبنان في قديم الزمان، ولما حرص أبي على أن أكون في دكانه، الصبي قبل المدرسة وبعدها، ترك لي زمام التسلية. جار الدكان في سوق دكاكين حميد صبي يكبرني، تسليته المجلات: سندباد، سمير، ميكي، سوبرمان، الوطواط.. كان والد الصبي (عمران الفيتوري) صديق أبي دائم الحضور في الدكان، لقد أخذ صديقي عمران يغويني بلعبته المفضلة، ما شاركته فيها بشغف وحب. غصت في قصص الكيلاني وترجماته من أدب طفولة عالمي، ومن خلال المجلات المصرية للأطفال قرأت مُسلسة رواية (عودة الروح) لتوفيق الحكيم، ورواية (الأيام لطه حسين) وعرفت عباس محمود العقاد، كما طالعت قصة (في سبيل الحرية) مسلسلة، قيل أنها من تأليف جمال عبد الناصر، كان ذلك قبل المدرسة.

دكان أبي تكية للأحباب والأصدقاء شيبًا وشبابًا، ومنهم المدرس والطالب في الجامعة، ومنهم رئيس الحرس البلدي (فرج ابريكة) من هُوّيته (أرسين لوبين)، ولهذا يداعب رئيس مركز شرطة الصابري (خليفة الجحاوي) في خلوة الدكان، ومنهم الجزار (موسى سلامة) القارئ للآداب العالمية والشعبية، أما ناظر المدرسة (فتحي الجدي)، من درس لعامين مهنته، في الجامعة الأمريكية ببيروت، فكان قبان الخلوة. لسنوات خلون عشت طفولة ثرية دون دراية، ولأن المعركة عربية وجمال قائدها، فكانت مصر أرض الكنانة.