Atwasat

جمل الطاحونة الأيرلندي

جمعة بوكليب الأربعاء 31 مايو 2023, 01:32 مساء
جمعة بوكليب

المصالحة التي جرت في إقليم شمال أيرلندا، بتوقيع اتفاق السلام في العام 1998، وأدت إلى مشاركة الطائفتين المتناحرتين على السلطة في الإقليم، لم تتمكن، بعد نحو خمس وعشرين سنة، من ترسيخ جذورها على الأرض وفي النفوس، حتى يومنا هذا.

وراء الأزمة القائمة في الإقليم، منذ عام وأزيد، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي العام 2016، وما ترتب على ذلك من وضعية جديدة للإقليم، ناجمة عن وضعه الجغرافي الملاصق حدودياً لجمهورية أيرلندا، العضو في الاتحاد الأوروبي. الوضع الحدودي مع دولة عضو في الاتحاد الأوروبي فرض وضعية حدودية وجمركية مميزة للإقليم. تلك النقطة الحدودية الأرضية تعد الوحيدة التي تفصل بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.

اتفاق السلام الموقع بين الفرقاء في الإقليم، برعاية بريطانية وأيرلندية وأميركية العام 1998، أدى إلى رفع البوابات الحدودية بين الإقليم وأيرلندا. إلا أن خروج بريطانيا من الاتحاد بعد استفتاء العام 2016، استلزم إعادة تلك البوابات. الأمر الذي قوبل بالرفض الكامل من سكان الإقليم. لذلك، جرى التحايل على الأمر بوضع نقطة حدودية في البحر الأيرلندي بين بريطانيا والإقليم، كي يسهل على لندن توقيع اتفاق الخروج من بروكسل. المشكلة أن الوضع الحدودي البحري فرض قيوداً جمركية على حركة تنقل البضائع بين بريطانيا والإقليم. وأدى إلى إرباك الوضع الاقتصادي في الإقليم بشكل لافت، وتأخر وصول سلع وبضائع غذائية أساسية وأدوية بسبب الإجراءات الجمركية، مما أدى إلى خلق حالة تذمر واسع بين سكان الإقليم ورجال الأعمال والتجار.

وهذا أدى بالحكومة البريطانية بقيادة بوريس جونسون إلى المطالبة بإعادة التباحث في الاتفاق التجاري مع بروكسل. ورفضت بروكسل فتح المفاوضات من جديد، واعتبرت الاتفاق نهائياً. لذلك، هدد السيد بوريس جونسون، قبل خروجه من السلطة، بإلغاء الاتفاق كلية من جانب واحد، في حالة استمرار تعنت بروكسل.

بقيت المشكلة بلا حل، وأدت إلى انسحاب حزب الاتحاديين الديمقراطي البروتستانتي من المشاركة في الحكومة المحلية بالإقليم ومن البرلمان المحلي احتجاجاً، مما تسبب في إحداث أزمة سياسية بالإقليم، إلى حين وصول السيد ريشي سوناك إلى الحكم. وتمكن من إقناع بروكسل بأهمية تعديل بروتوكول شمال أيرلندا. الأمر الذي رفع من شعبية السيد سوناك في استبيانات الرأي العام. إلا أن حزب الاتحاديين الديمقراطي أصر على مواصلة موقفه بعدم المشاركة في الحكم المحلي إلى حين رفع كل القيود، ومعاملة الإقليم مثل بقية المناطق البريطانية.

هذه الوضعية أصابت الإقليم بالشلل. ورغم إجراء انتخابات برلمانية وأخرى للمجالس البلدية، أدت إلى حصول حزب شين فين الكاثوليكي الجمهوري على أغلبية المقاعد، فإن عناد الاتحاديين تواصل، وقاد إلى انسداد سياسي يشبه حالة الانسداد السياسي في ليبيا. بمعنى أن الوضع أضحى لا يختلف عن وضعية جمل الطاحونة، أي الدوران في نفس المكان، بعينين مغمضتين.

الاتحاديون البروتستانتيون الذين يدينون بالولاء لبريطانيا منقسمون. وانقسامهم كان لصالح الجمهوريين ممثلين بحزب شين فين، وبان ذلك واضحاً في الانتخابات البرلمانية الماضية، حين جاءوا في المركز الأول بأكثرية الأصوات والمقاعد في البرلمان المحلي. وحق لهم بذلك الفوز ترؤس الحكومة المحلية، للمرة الأولى، وفقاً لاتفاق السلام في الإقليم الموقع في العام 1998. لكن الحكومة المحلية لن تصير واقعاً من دون مشاركة الاتحاديين الديمقراطيين، والبرلمان المحلي لن يعقد جلساته من دونهم.

ما يميز الانتخابات البلدية التي انتهت في الأسبوع قبل الماضي، هي أن الجمهوريين بقيادة حزب شين فين تحصلوا على عدد 144 مقعداً، بزيادة عدد 39 مقعداً. بعض تلك المقاعد كان في مناطق معروفة بولائها تاريخياً للاتحاديين. أضف إلى ذلك أن بقية الأحزاب الاتحادية البروتستانتية خسرت مقاعد عديدة. وجاء حزب الحلفاء (The Alliance) في المركز الثالث، بعدد مقاعد بلغ 67 مقعداً وبزيادة عدد 14 مقعداً. هذه النتيجة الأخيرة، مضافة إلى ما جرى في الانتخابات البرلمانية المحلية، تؤكد أن المعادلة الثنائية الحزبية في الإقليم بين الجمهوريين والملكيين قد تغيرت إلى معادلة جديدة تتكون من ثلاثة أطراف.

الخروج من حالة الانسداد الحالية يتطلب توافق أطراف المعادلة الثلاثة وقبولهم المشاركة في اللعبة السياسية كما صممها اتفاق السلام 1998. وهذا يعني حرفياً أن الجمل في طاحونة بلفاست، سوف يستمر في دورانه الممل إلى أن يتخلي الاتحاديون عن موقفهم. وهناك احتمال آخر يتمثل في إمكانية احتقان الوضع شعبياً، بسبب تعطل الحكومة وافتقاد الخدمات الضرورية، والعودة إلى ما قبل مرحلة توقيع اتفاق المصالحة العام 1998.