Atwasat

الفن النبيل والساسة

جمعة بوكليب الأربعاء 24 مايو 2023, 10:49 صباحا
جمعة بوكليب

أنصار وعشاق رياضة الملاكمة يطلقون عليها اسم رياضة الفن النبيل. لكن ذلك الوصف لا يجد قبولاً لدى من يبغضونها لخطورتها ويصفونها بالوحشية، ويطالبون بحظرها كلية. إلا أن رياضة الملاكمة رياضة قديمة جداً، وجدت لتبقى. ولها أبطالها وعشاقها في جميع أنحاء المعمورة. 

كنت في صباي وشبابي حريصاً على مشاهدة حفلاتها بطرابلس. وكانت تقام أولاً في ملعب جانبي صغير، وراء المجمع الرياضي حالياً، ثم فيما بعد، عقب تشييد المجمع الرياضي، الذي يعرف الآن باسم مجمع المرحوم رجب عكاشة، انتقلت الحفلات إليه. وسمعت ممن هم يكبرونني سنّاً أن حفلات الملاكمة في طرابلس كانت، في فترة زمنية، تقام على مسرح سينما الغزالة. 

نادي النجم الليبي، قبل انتقاله إلى مقره الجديد في شارع ميزران، ودمجه فيما بعد مع نادي ميزران الرياضي الثقافي في نادٍ واحد، أطلق عليه اسم نادي الوحدة، تبركاً بإعلان الوحدة في ليبيا العام 1963، كان متخصصاً في رياضة الملاكمة فقط. وحسب علمي، لم تكن له، قبل الاندماج مع نادي ميزران، نشاطات رياضية أو ثقافية أخرى. قبل انتقاله إلى شارع ميزران، كان مقره يقع في المصيف العسكري، المجاور للمصيف البلدي. وكنت أنا وأترابي كثيراً ما نذهب هناك للتلصص على تدريبات الملاكمين. إذ لم يكن مسموحاً لنا بالدخول، بسبب صغر أعمارنا. 
لكن رياضة الملاكمة في ليبيا، لسوء حظها، تعرضت للحظر من قبل النظام العسكري السابق، واعتبرها القائد الأوحد رياضة وحشية لا مكان لها في نظام جماهيري حضاري، كان يحرص على شنق خصومه ومعارضيه في الميادين وساحات الجامعات، ولا يرى في ذلك وحشية!! وكانت المشانق لمعارضيه تنصب قبل بدء المحاكمات المنقولة على الهواء. حفلات الشنق الوحشية تلك، يحرص الآن أنصار النظام السابق على عدم التعرض لها، في نقاشاتهم على وسائط التواصل الاجتماعي.   

رياضة الملاكمة دولياً كانت محظوظة ببروز ملاكم فذ، وشخصية لا تنسى في الستينيات من القرن الماضي، أميركي الجنسية، كان اسمه كاسيوس كلاي، ثم أعلن إسلامه، وصار يعر ف باسم محمد علي. 
محمد علي، رحمه الله، منح رياضة الملاكمة ما كان ينقصها من فن. وجعلها منافسة لرياضة كرة القدم في عالميتها وكثرة أنصارها. وربما في تلك الفترة الزمنية، ظهر الوصف «رياضة الفن النبيل». وحين زار ليبيا في السبعينيات من القرن الماضي، ذهبت لمشاهدته في المجمع الرياضي، حيث أجرى جولات استعراضية مع عدد من الملاكمين الليبيين.

الملاكمون بطبيعتهم مختلفون. لكن أكثرهم لفتاً للأنظار نوعية معينة منهم يطلق عليها المختصون «الملاكمون الأذكياء» وهم قلة. ويتميزون بقدراتهم على الفوز في المنافسات ضد خصوم أقوياء، ومن دون تعريض أنفسهم لمرارة الهزيمة، أو لأوجاع الإصابات. وهم في ذلك لايعتمدون على قوتهم البدنية فقط، بقدر اعتمادهم أكثر على ذكائهم ومهاراتهم، ومعرفة مناطق القوة عند خصومهم وتفاديها، ومناطق الضعف واستغلالها. ومحمد علي كان أشهرهم.
آخذين في الاعتبار الفارق، ألا يمكن القول إن الساسة ربما يشبهون، إلى حد ما، الملاكمين؟ قد يجد البعض منا ذلك ممجوجاً، ويرفضونه على أساس أنه لا وجود لتشابه من أي نوع. لكن، في وجهة نظري، أرى المقاربة أو المقارنة ممكنة بل ومقبولة إلى حد ما. 

السياسة لا توصف بالفن النبيل، ولا علاقة لها ولأهلها بالنبل أصلاً. ومن المستحب والشائع تشبيه أهلها بالأفاعي السامة. وهم أنواع عديدة جداً. لكن الأذكياء، أو بالأحرى الدهاة منهم، قلة، وهم الأكثر قدرة على البقاء على خشبة المسرح إلى حين تقاعدهم أو موتهم. ويتوزعون في مختلف بلدان العالم. ويبرزون بين حين وآخر، لافتين إليهم الأنظار، بما يملكونه من دهاء، وما يحظون به من مهارات متميزة، تجعلهم قادرين، على تفادي ضربات الخصوم والفوز. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، على سبيل المثال لا  الحصر. 
ما يفرق الملاكمين، في رأيي، عن أهل السياسة، هو أن أغلبهم بعد اعتزالهم يقعون ضحايا للإفلاس، ويتحولون في آخر العمر، في أحيان كثيرة، إلى العمل في مهن صغيرة تتناسب وما كانوا يمارسونه من قبل، لأن أغلبهم لا يملكون مهارات مهنية أو شهادات علمية. وقد يلجأ بعضهم إلى العمل في ملاهٍ ليلية أو ما يماثلها، وكثيراً ما تجدهم يحرسون أبواب الدخول لردع كل من يحاول من الرواد العبث بالنظام العام. 
المفارقة، أنه في بعض الأحايين، من المحتمل أن تعود ملكية المكان الذي يعملون فيه إلى سياسي سابق، أجبر على مغادرة المسرح لتورطه في قضايا فساد مالي أو أخلاقي، أو الاثنين معاً.