Atwasat

خليفة الفاخري والعيش أكثر من حياة

سالم العوكلي الثلاثاء 23 مايو 2023, 11:56 صباحا
سالم العوكلي

العام 1942، في أوج الحرب العالمية الثانية التي يدور جزء منها على امتداد الساحل الليبي، وُلِد الأديب خليفة الفاحري، في بنغازي مأوى النازحين من جهات مختلفة من ليبيا وعقيب أسواق المتاجرة بالبشر، وبعد عقود من الصراع مع الغزو الإيطالي، ثم سنوات من الحرب العالمية الثانية بين الحلفاء والمحور كانت فيها بنغازي تقصف بالطائرات من جانبي المعركة، دخلت ليبيا تحت الإدارة الإنجليزية صراعا سياسيا انخرطت فيه قوى عظمى من أجل الحصول على استقلالها، وحين أعلن استقلالها كان عُمْر الفاخري عشر سنوات، وبسبب ظروفه الصعبة ترك المدرسة مبكرا وفي السن السادسة عشر انخرط في العمل في نظارة المعارف.

وبعيدا عن المؤسسة التعليمية الرسمية الناشئة آنذاك، علم الفاخري نفسه، عبر حفظه للقرآن في جامع الحدادة، وتردده على المركز الثقافي المصري لقراءة المجلات والكتب، وتعلمه اللغة الإنجليزية في المركز الثقافي البريطاني لمدة خمس سنوات، ثم حصوله على دورة في المملكة المتحدة في اللغة الإنجليزية ما مكنه من الإطلاع على بعض الأدب في هذه اللغة.

بعد الاستقلال، وفي مجتمع تغلب عليه الأمية وتقل فيه النخب، كانت الساحة الثقافية والسياسية تتلون بعديد الأطياف المتأثرة بالحراك الثقافي والسياسي العربي في ذلك الوقت، وكان الفاخري الذي عاش يافعا تلك التحولات، وانطلاقا من إجادته للغة الإنجليزية واطلاعه على بعض آدابها، يفتش عن ذاته وهويته الإبداعية بعيدا عن هذه التأثيرات التي كانت حمى القومية العربية المزدهرة في مصر، وجاذبية الحركة البعثية في الشام والعراق.

وبعض تأثيرات المد الشيوعي في العالم الثالث، تهيمن عليها، ولم ينخرط في أي من تلك التيارات رغم ما تتمتع به من جذب للشباب المثقف آنذاك، وشكل مع أديبين من بنغازي جايلهما ظاهرة إبداعية في مدينة من طبعها الاحتفاء بنجومها، وهما النيهوم والشلطامي، ليشكلوا ثلاثة اتجاهات كتابية تبدو في الظاهر منفصلة مثل بحيرات المدينة السبخية لكنها في الواقع متصلة بعروق خفية في الأعماق. وهي ظاهرة سرعان ما انحسرت بين المنفى الخارجي والمنفى الداخلي، فهاجر النيهوم إلى أوروبا، ومع توجه النظام الانقلابي في ليبيا في السبعينيات إلى تصفية النخب الثقافية أو احتوائها اختار الفاخري والشلطامي الانعزال في منفى داخلي، عندما أصبح الواقع مضادا لرؤاهما وقاتلا لأحلامهما التي عبرا عنها بقوة في عقد الستينيات.

ولم تكن بنغازي التي اكتسبت في تلك الفترة وقبلها صفة (رباية الذايح) قادرة على تربية أحلامهما أو احتضانها وسط حمى نظام ثوري مؤدلج أراد أن ينظف الساحة من كل توجه مختلف للمضي قدما برؤيته الخاصة لمستقبل ليبيا، وما لبث أن بدأ خفوت نجوم الساحة ليحتضنها نهر الليثيوس أو نهر النسيان الذي يقع تحديدا في بنغازي، ويسمى به حتى الآن (حي الليثي)، النهر الذي تعود إليه الأرواح المتعبة لتَنسى وتُنسى في الوقت نفسه كما تخبرنا الأسطورة الإغريقية حين أسس المستوطنون النازحون من اليونان مدينة (بنغازي) في الفترة من 525 ق. م إلي 515 ق، وسموها هيسبيريدس التي تعني حدائق التفاح الذهبي.  

كان الفاخري العائد يافعاً ــ بعد نزوح عائلته إبان الحرب خارج المدينة ــ تتلمس أصابعه القلقة القلمَ عارية من ضغط الأيديولوجيات الصاخبة آنذاك، ومنسجمة مع قراءاته للأدب الإنجليزي، خصوصا القاص والروائي همنجواي الذي طالما عبر عن إعجابه القوي بنثره، وأمام ضغوط اجتماعية وسياسية على مخيلته المغامرة، كانت عينه مسلطة على طائر النورس المهاجر، وروحه جوابة للعالم تجمح بها الرغبات الدفينة إلى ما يسميه "شمال الروح" حيث فكرة اللامكان الملتبسة كانت تلح عليه حين سُحب المكان الحالم به من تحت قدميه، وظل النورس طائره المقدس الذي يجمعه به الغرام المشترك لشواطئ البحر والمرافئ.

البحر الذي ظل (يدْوِي) في ذاكرة الليبيين كبوابة للغزاة من كل صوب، وهم يبحثون عن شريط نجاة بين بحرين شرسين: بحر الرمال في الجنوب وبحر الغزاة في الشمال فحاربوا المدن التي ألقى بها هذا البحر على شواطيء ليبيا، مثلما حاربوا في أسطورتهم القديمة رياح القبلي أيضاً.

وفي قلب هذا الوجدان الشعبي المحاصر بالخوف، كان الفاخري، عاشق البحر وأشرعته، يبيع الريح للمراكب كي تمضي عبر الأفق، ويلاحق النوارس أينما تمضي بنبضه المرسل صوب آفاق بعيدة في الشمال، فهو الصاعد بغبطة إلى ظهر السفينة والحالم بروما ورسومات مايكل أنجلو وتمثال بيتا وموسيقى زوربا، والنساء اللامعات كذوائب اللهب، وكان المكان ــ كما يكتب ــ "يقع تحت طائلة التجريد .. لقد كنت ألح دائماً على فكرة أن العالم بأسره وطن الإنسان... أنت حقيقة تحنُّ إلى الإنسان الذي تعرفه، وليس المكان". أو كما يهتدي مرارا بالشاعر المتنبي في قوله: "شر البلاد مكان لا صديق به". أو "أعزُّ مَكانٍ في الدُنى سَرجُ سابِحٍ". أو "المكان الذي لا أين له حيث لا تجد السبابة إليه متجها" كما يقتبس من السهروردي.

كان الفاخري يعرض في شتى كتاباته النثرية رؤيته لمفهوم المكان/ اللامكان، والذي سيذهب في تجريده إلى حد ربطه بالإنسان أينما كان، أو الإنسان الذي "لا أين له"، وينطبق التجريد نفسه على الزمان الذي ـ كما يقر: "عليه أن يكون مختزِلاً الحياة كلها عبر لحظة زمن قطبها الإنسان"، ورغم هذا التجريد اللامتناهي للمكان والزمان، إلا أننا سنعثر على المكان محدداً لديه في ثنايا كتاباته بجغرافيا تحدد حركة توق المؤلف وأحلامه.

حيث يحضر جنوب المتوسط لديه غالبا في سياق من التهكم والسخرية وأحيانا التقزز، لأن ثمة يوتوبيا راسخة في مخيلته تحدد خلاصه في الضفة الأخرى لللمتوسط، وثمة سبابة متجهة إلى هناك حيث النسيم البارد ملاذه من ريح القبلي، ومطيته التعبيرية عن هذه الرؤية هي الحكاية أو القصة القصيرة، كجنس أدبي وافد من هذا الشمال، والناجي بعكس الشعر من أي سلطة تراثية تطبق على أجنحة التجريب فيه، فالحداثة الليبية كما يقر الروائي والناقد أحمد الفيتوري، "قصة، وهذه القصة قصيرة، وعمر هذه القصة القصيرة قصير جدا". فهل ثمة جدل لدى الفاخري في مجمل كتاباته بين هوية الإنسان وهوية النص الذي يعبر به؟.

بمعنى آخر، الفاخري الذي ظل ممسوسا في وعيه بفكرة اللامكان التي تحدد هوية الإنسان المنتمي للعالم، أو المكان المجغرف بحدود الإنسان، يبوح في لاوعيه بمكان مثالي هو الشمال المتحضر الحاضر غالبا في سياق من الانبهار والنشوة، مؤثِرا شخوصه المتعلقة بالقطارات والمراكب والحانات ومحطات الثلج، ومنتشياً نثره بالنساء الشقراوات "مثل ذؤابة من اللهب" والعيون الزرقاء، واللون اللازوردي، تذكرته إلى الفردوس الموعود، وهو، بمعنى آخر، يطرح مفهوم الزمان/ الهوية بديلاً  للمكان/ الهوية، فنحن في الواقع نعيش أزمنة مختلفة في مكان واحد هو العالم، وبالتالي فإن الحياة في مجتمع متخلف هي الغربة الحقيقية، حيث العلاقات مأزومة والحوار مفقود والحريات مقموعة، ومعظم شخصيات نصوصه المتعلقة بالمكان مآلها الانتحار، وحضور المرأة فيها شبحي، والحانات غائبة، والشتاء ـ بديل القبلي ــ ما هو إلا "موسم للمستنقعات والوحل والمجاري الطافحة".

وحيث الفقراء يقفون بأرجلهم الحافية على الجمر المتقد ليعالجوا الألم بالألم، وحيث القبضات المتورمة والفخاخ التي تنهش الأقدام دون انقطاع. إنه المجتمع المتخلف الذي جعل كاتبا تنويرياً مثل النيهوم يلوذ بمنفاه في الشمال مؤكداً على "أنه لا يتفق مع الليبيين في شيء"، والذي يقول عنه يوسف القويري أنه يرمي بطلائعه في المنفى النفسي، ومجتمع الغربة التي يصفها إبراهيم الكوني: إنها تقتلني وتعذبني وتمسك بخناقي طوال سنوات الوعي دون أن أجد حيلة في مواجهتها غير الكتابة.

إنها الغربة نفسها التي جعلت محمد الشلطامي ـ نجم الستينيات في الشعر ـ ومغني الفقراء ــ كما يصفه النيهوم ــ ينزوي بعيداً عن الأضواء والفضاء الثقافي، مثلما فعل الفاخري الذي ذوت في عينيه أجنحة النوارس ومشاهد الأفق اللازوردي، ولن تبقى في كتاباته الأخيرة ــ بعد أن اكتشف وهم الفردوس الشمالي ــ غير صورة السمكة الأرجوانية المصفرة في إناء الماء، وعش العنكبوت الساكن في الزوايا المعتمة.

وليكتشف بعد مغامرته أنه كان يبيع الريح للمراكب الغارقة، وأنه "الدودة الملعونة التي ألقاها الله ذات يوم في إحدى خِرَب بنغازي وتخلى عنها" ولأن "الدود الملعون لا يملك أجنحة" فقد حلم دائمأ أن يصبح طائراً: "أردت أن أعبر الأشياء حتى منتهاها.. أن أذرع أيامي بكل خطوط الطول والعرض.. أن أسير إلى أقصى نهايات الطرق.. أن ألمس بأصابعي ما تسفر عنه رحلات الانطلاق المسعور إلى آخر مدى، وكنتُ لا أملك في داخلي أي شيء خارق سوى قليل من الإصرار وتطلع جائع أبداً، واستعداد متواضع لتحمل الهزائم، وذلك الحلم القديم. ولكن كيف تستطيع أن تحقق هذا بجناحي خفاش أعمى؟".

أشرع الفاخري أبوابه المواربة صوب الضفاف الأخرى كلما ضاق به الأفق، تاركاً شراعه مفتوحاً "ليشرب الريح إلى بداية غربة أخرى"، أو يبقى قابعاً على الرصيف البحري المهجور يبيع الريح للمراكب الغارقة، وهو يقول في النهاية مستشهداً بأوسكار وايلد: "من يعش أكثر من حياة، يقاسِ أكثر من موت".

*كل العبارات بين علامات التنصيص من كتاب خليفة الفاخري "بيع الريح للمراكب" منشورات الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان ـ ط 1994 .