Atwasat

إناسة السجن

نورالدين خليفة النمر الخميس 18 مايو 2023, 12:20 مساء
نورالدين خليفة النمر

دُعيت مارس العام 2014 من كلية الآداب بجامعة تونس، كوني أستاذاً بقسم الفلسفة بكلية آداب طرابلس، لإلقاء محاضرة مفتتحة لمحاور ندوة أشرفت عليها شعبة أنثروبولوجيا الثقافة برئاسة د. محمد الجويلي بعنوان «أنثروبولوجيا السجن: قراءات في أدبيات السجن الليبية». اخترت لمحاضرتي عنواناً هو «الامتثالية والممانعة في الأدب الليبي».

قبل الندوة بأزيد من عامين نشرت لي جريدة «المسار» العام 2012 بحثاً ألقيته في ندوة حول أدبيات السجن الليبية، أشرف على إدارتها الكاتب عمر أبوالقاسم الككلي. انهممت في بحثي «وصف السجن: وظيفة الوصف أدبا في إعادة إنتاج تجربة السجن الليبية» بطوبوغرافيا السجن، كمكان جرى وصفه في السيرة السجنية بما يتوّجه إلى الشخص البشري ذاته، والذي تؤمّن فيه العزلة أو بالأحرى (العزل) المجالسة وجها لوجه بين المحبوس والسلطة التي تمارس عليه. فتصبح الحركة التي لا معنى لها ولا جدوى منها تلك التي يشتغل عليها (الوصف) ـ بتعبير الفيلسوف ميشيل فوكو ـ سوأة السجن عندما يكون بلا جدوى. أما القراء الذين سيتعاملون مع نصوص التوصيف التي يقترحها (الكتّاب) في سياق العملية التي أسميناها «إعادة إنتاج تجربة السجن» فإّنهم يكونون في حيرة من أمرهم إزاء هذه «الأمكنة المسنّنة» فيتساءلون عن معاني الأبعاد التي تظهر بها والتي تستفزّ حواسهم، وتقلق تساكنهم مع المعيش، أي الخارج الذي ربما بشكل من الأشكال يسجنهم ويسجن الآخرين الذين لهم علاقة ما بهم.
وهذا ما حاولت أن أعالجه في مساهمتي بندوة تونس حول أنثروبولوجيا السجن الآنف ذكرها، أي تطوير مبحث الطبوغرافيا إلى أنثروبولوجيا ثقافية يمكن تسميتها بأنثروبولوجيا السجن وصفاً أدبياً كما تعبر عنه سجنيات الككلي وقصص أخرى مبثوثة في مجموعتيه صناعة محلية ومنابت الحنظل، وسرداً سيرياً كما تجليه في سنوات بعدها «أشتات الذات: سرديات العمر» وهو يكوّن بحثاً يمكننا إدراجه في هذه الثنائية: الممانعة تخضّعها الامتثالية. أي عملية إخضاع ممانعة السجين عامة في داخل السجن وخارجه بامتثاليته.

لقد حظيت هذه الموضوعة الأنثروبولوجية بكتابات متعمقة ووافية من قبل الفيلسوف ميشيل فوكو الذي خصص لها كتاباً مهما من كتاباته هو: (المراقبة والعقاب ـ ولادة السجن)، اعتمدناه في دراستنا المذكورة آنفاً. إلا أن اللافت في كتابة سجنيات الككلي، قصة وسيرة، أن امتثالية السجن عملية مبرمجة لإخضاع ليس داخل السجن كطبوغرافيا تحوز السجناء فقط، ولكن الخارج كأنثروبولوجيا مؤنسنة. لتوضيح هذا المنحى نقتطف ما يلامسه بلانشو بصدد الكلام عن ميشيل فوكو في ذلك المقتبس الرائع الذي يورده عنه جيل دلوز في كتابه «المعرفة والسلطة: مدخل لقراءة فوكو» بأن: "الحبس أو الحجز يحيلان إلى خارج، وما هو محتجز أو محبوس هو الخارج ـ ففي ـ الخارج (...) تحجز الأجهزة وتحبس».

من الخوارج المحبوسة، حسب تعبير بلانشو، التي رصدتها سجنيات الككلي في قصة «أبي» ما اصطلحنا على تسميته بـ«الأبوية». فبلسان ضمير السارد نقرأ: «عندما تحصل هو [ الأب]، وبعض أفراد الأسرة على إذن لزيارتي للمرة الأولى بعد شهور من السجن فوجئت به يجلس منهكا ذابل الملامح دامع العينين. سبق أن رأيته باكيا في مناسبة أو اثنتين. لكن هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها يبكي من أجلي. بدت نظرته مستسلمة مرتبكة يمتزج فيها الانحراج من بكائه والرغبة في إخفائه بمشاعر التعاطف معي والإحساس بضرورة أن يظهر لي حزنه عليّ. فآلمني ما حدث له. لقد زج به في نوع جديد من المشاكل أبعد ما يكون عن فهمه، ولا حول له ولا حيلة في مواجهته».

يظهر فعل [زُج به] في المقتطف مهماً. كونه فعلاً مبنياً للمجهول، لمعلوم هو السلطة التي تزّج بالممانعة في التجربة المخضِّعة بوجهها المقابل الامتثالية في داخل السجن وخارجه. واحدة من المسجونات «الأبوية»، وهي التي سبق لنا في مقالات سابقة أن رأينا تمثيلها كسلطة مهيمنة في طبيعة عائلية ـ مجتمعية سلطوية، تجلت في بضعة من قصة سيرة ليبية مُهيمن عليها «إبيسياً»، في عالم تظلّله القسوة وتسوده الفظاظة وتحف به مظاهر الخشونة وشظف المعاملة. هذه السلطة الأبوية التي حاصرت كتابة الككلي تمظهراتها السلطوية بإحراجها تقدم في السجنيات بصورة ضعيفة تبرز هشاشتها وعاطفيتها وارتباكها. «لقد هزت واقعة سجني كيانه، إن لم تكن قد قصمت ظهره. كانت مفاجأة كاسحة جعلته، فيما يبدو، يغير رأيه في ويشعر بندم شديد لأنه لم يكن يقدرني حق قدري».

إن أب السجنيات الذي خيب انتظاراتنا بما توقعناه من إبيسيّته التي صدمتنا تجاوزاتها إزاء السارد بضمير الابن في سرديات عمره وأشتات ذاته، ها هو إزاء محنة سجن ابنه ـ سجنه. يربكنا بحرجه الذي أبانته تصرفاته. «حين أعلن الضابط المسؤول عن قسم المساجين السياسيين في السجن التابع للشرطة لأسرتي عن انتهاء زيارتهم الأولى لي، قال لهم:- خلوله كان عندكم حاجة، ملابس أو دخان أو ماكلة. فقال أبي:- ما جبناش ماكلة لأنا مش عارفين مسموحة والا ممنوعة. والدخان هو ما يدخنش. حين تناول الضابط الحقيبة وفك أسنانها المتشابكة، كان أول ما بان عليه صندوق ورق مقوى من علب تبغ روثمان. لم أنظر إلى أبي لأستطلع مدى الارتباك الذي يمكن أن يكون قد اعتراه بسبب ظهوره بمظهر من انفضح كذب إفادته. ومن المؤكد أنه سخر من نفسه ولامها على تسرعها».

الأبوية الممانعة بتحايلها في سردية السيرة حسب ما بينه رولان بارت في كتابه «أسطوريات» بأسطرة اليومي وهو ما ورد إفادة كاذبة باستعارة الكذب الأبيض في قصة «نقل البقرة». نراها مكشوفة في هذا المقتطف السردي: «اتجهت ناحية أبي الذي كان الإرهاق واضحا عليه. مددت يدي فسلم علي بانكسار، بدا واضحا في عينيه اللتين كنت أحار دائما في تصنيف لونهما الأشبه ما يكون بزيت صاف، مشرق، تغلب عليه الصفرة (رغم انكسارهما البادي، كانتا تترقرقان بتألق تختلط فيه العذوبة والحزن، عزوته إلى أنه كان يبكي)، وارتباك تنوء به غمغمته، دون أن ينهض، ودون أن يطيل النظر في وجهي. ثم اتجهت ناحية أمي التي فوجئت بأنها كانت أكثر تماسكا من أبي ويبدو أنها كانت، طوال الطريق، توطن نفسها، مثلي، على أن تبدو أمامي كذلك. فسلمت هي أيضا دون أن تنهض، ولكن بصوت واضح متماسك وابتسامة مرتبكة ردا على ابتسامتي المدعاة، ثم حان دور أختي، وهي أصغر مني بقليل، فنهضت وعانقتني باكية قليلا». في هذا المقطع من سردية السجن ما نلحظه هو أن «الأبوية» قد أسقطت دفاعياتها بإعادة موضعتها بامتثالية السجن في ترتيب مختلف عما سنسميه في قراءتنا لقصة «نقل البقرة» بميثالوجيا العائلة.