Atwasat

مباضعة الظهر

نورالدين خليفة النمر الأربعاء 10 مايو 2023, 11:32 مساء
نورالدين خليفة النمر

قرئت قصة «الظهر» تقريباً لأول مرة بصوت الكاتب عمر أبوالقاسم الككلي من مخطوطة مكتوبة باليد في سهرة أصدقاء ببيتي بطرابلس، بمناسبة وداعي مسافراً للدراسة العليا بألمانيا ليلة رأس السنة 31 ديسمبر العام 1991. وقد قام الشاعر عاشور الطويبي بتسجيلها على شريط كاسيت مع مقروءات أدبية ومسموعات موسيقية أخرى، وأهداني قبيل سفري نسخة من الشريط .

قصة «الظهر» التي سمعتها مباشرة من الكاتب ثم عبر الشريط المسجل مرات بصوته والتي قرأتها إبان صدور المجموعة «صناعة محلية» التي شاركت العام 2000 بمداخلة شخصية محللاً بعض قصصها، ما زلت أعود إليها متأملاً في كفاءتها الأسلوبية بما يتوافق مع ما اقترحه الأسلوبيون وما بينه جورج مولينيه في كتابه «الأسلوبية»، حيث تتجاوز الدلالة الإيحائية، الدلالة الذاتية لتحولها أو تحورها، أو حتى تشوهها بالوصف السردي عبر وظائف التوهيم والتخييل.

وعندما بدأت أقرأ بداية الألفية الثانية ترجمات الكاتب عمر أبوالقاسم الككلي عن الإنجليزية لقصص كتاب عالميين معاصرين ومميزين، كان سؤالي كيف سيستلهم حساسياتهم، ويستبطن بنيات كتابتهم وطرائقهم في تكنيك كتابته لـ(قصة ـ سيرة/ سيرة ـ قصة). ولكن استلهام الحساسية تجلى قبل الترجمة بسنوات في قصة «الظهر» التي تلاءمت شروطها حدثاً وفعلاً ومكاناً مع ما سنصطلح عليه بـ«المباضعة»، إذا تجاوزنا وصمها الأخلاقي السلبي في ثقافتنا، وهي امتياز الكتابة والجوهر اللعبي الباهر في المتوفر الوصفي/ السردي المحدود في السرد المتفاوت روعة، والذي تنسرب فيه «المباضعية» أو التبادل المباضعي مثل «التبادلية المقايضية» أو بالمعنى الاقتصادي، التبادل البضاعي في السوق.

«الظهر» في «صناعة محلية»، قصة ما بعد الخروج من السجن، إلى المكان الآخر، ولكنها ما زالت محكومة أسلوبياً بـ إبيسية المجتمعيات السجنية بأن تكف ـ بالتعبير الفرويدي ـ وصفها وسردها التوهمات الشبقية من طرف واحد في القصة يمثله السارد. الأمر الذي يعيقها عن أن تنخرظ بكفاءة في ذاك النوع من الكتابة الشبقية في القص الذي أشهره (د.هـ. لورنس) في روايته «عشيق الليدي تشاترلي» وواصله روائيون مرموقون كـ: (فلاديمير نابوكوف) في «لوليتا»، و(هنري ميلر)، في «مداري الجدي والسرطان» و(ميلان كونديرا) في «غراميات مرحة، وخفة الكائن غير المحتملة» فـ«الظهر» هي الأقرب لما نعنيه هنا بالمسألة (الجنسوية) التي تُوصف بشيء من التخفيف والحيادية بـ«المباضعية» تقريباً بالمعنى الذي تفيده الجملة الإنجليزية sexual intercourse.

ولكن التفاعلية في «الظهر»، مقارنة بالكتابات التي أشرنا إلى عناوينها آنفاً، تظهر بدرجة الصفر في المباضعة أو المبادلة وهو ما يبينه المقطع التخيلي المقتطف من القصة: «أتوقع أن تكون دانييلا الآن مستلقية على ظهرها فوق السرير، تحت الغطاء، تطالع كتابا [...] أتخيلها وهي تضع الكتاب مكفيا مفرود الجناحين فوق الكومودينو، تزيح الغطاء ناهضة، تدس عريها ودفأها فى الروب البرتقالى [...] أسمع صوت دانييلا، بلغتها التى لا أفهم منها شيئاً، لكني أدرك أنها تطلب مني أن أقوم بدفع الباب. وعندما أفتح الباب: يخطف بصري جزء من ظهر دانييلا، بالروب البرتقالى، وهي تسارع باللجوء إلى حجرتها».

نقول بدارجتنا الليبية «اعطاه بظهره»، أي انصرف عنه دون النظر أو الالتفات إليه لامبالياً به. وهذا ما قامت به «دانييلا» إزاء «السارد»، وهو ما تعودته بوعي لاـ مبالية بالقادم من يكون هو؟ فهو لن يكون إلا نسخة مكررة من المؤجرين لغرفة في شقتها يتصور السارد نفسه أحدهم يسير قافلاً لغرفته بعد منتصف الليل «بسكر متراجع، ودون رفيقة». الفقرة المنصوص عليها بقوسين تعمد الكاتب تمريرها في سياق نصه توضيحاً حتى لا نقع عبر شبكة الوصف السردي في الإيهام.

في هذا الصدد تفيد تحليلنا مقالة* للكاتب توم بتلر بودون من قسمين بعنوان «الحب والرغبة الجنسية والعلاقات، عند سارتر». وهي من الاختيارات التي ربما تعمد ترجمتها الكاتب عمر الككلي لإضاءة الزوايا المعتمة بعد عقدين من الزمن في قصته «الظهر»، وإظهارها مكشوفة بوساطة التحليل الفلسفي السارتري لـ«النظرة» المتملكة لـ «لآخر». نقتطف من المقالة فقرات ربما تكون دالة كاشفة لـ«المباضعة» في نظرة خاطفة من قبل سارد قصة «الظهر» لـ«جزء من ظهر دانييلا، بالروب البرتقالي، وهي تسارع باللجوء إلى حجرتها». المباضعة من طرف السارد عبر النظرة تكون النقيض للرغبية المتملكة للطرف الآخر التي تتلبس العملية الجنسية بقولة سارتر كما عبر عنها بودون بضمير دانييلا في قصة الظهر: «يجب أن نمثل للآخرين الحدود النهائية لحريتهم، حيث يختارون طوعاً عدم رؤية أبعد من ذلك. بالنسبة إلينا، نرغب أن يرانا الآخر ليس كموضوع، وإنما كشيء لا محدودية له: limitlessness لا يجب أن يستمر النظر إليَّ على أرضية العالم باعتباري «هذا this ضمن هذات theses أخرى، وإنما العالم هو الذي يجب أن يتكشف من خلالي».

من جهة السارد فإن سلوكه يعاكس تصرفات «دانييلا» الواعية التي تبدو ظاهرياً لا واعية بروتينية المباضعة الآلية. إذ يكون السارد متحسباً لتصرفاته واعياً بها بحساسية مفرطة «أعد ستة مواقف، بعد موقف الجسر، وأترك الحافلة في السابع. أتسمع وقع الحذاء الضيق على الرصيف المبتل. وأنا أسير بسكر متراجع، ودون رفيقة، بعد منتصف الليل.

أدخل البناية العتيقة. أتوقف أمام الشقة الأولى في الدور الأول. أتوقع أن تكون دانييلا الآن مستلقية على ظهرها فوق السرير، تحت الغطاء، تطالع كتاباً. أهمز الجرس همزة خاطفة، فأسمع زعقته مندفعة عبر الممر الضيق مقتحمة الزوايا، يعقبها صوت دانييلا وهي تعلن عن قدومها ببرم مكظوم».

قراءة بودون لجنسوية سارتر العلائقية يختمها باعترافه أن «الشيء الذي لم أتوقعه وأنا أتهيأ لكتابة دليل للكتابات الكلاسيكية في الفلسفة، أن أجد تبصرات راقية بشأن العلاقات. وعلى الرغم من أن الكتب المتعلقة بمبحث أعصاب الحب، وعلم المواعدة أو الاختلافات بين الجنسين، قد تكون مثيرة للاهتمام، إلا أنها لا تعالج قضايا الكائن Being والآخرOther الأساسية التي حددها سارتر بألمعية، القضايا التي تمثل محور أي زوجcouple».

ينقل الكاتب بودون عن سارتر قوله: «إننا لا نرغب في امتلاك الأشخاص باعتبارهم مواضيع، فحسب، وإنما حريتهم الواعية في أن يرغبونا أيضا». هذه التملكية التامة والمرغوبة من قبل طرف إزاء الطرف الآخر في العلاقة الجنسية وإن كانت متوهمة في قصة الظهر، تبدو مختلة بين ثنائية هذا الدفع والجذب بين الموضوعية objectivity والذاتية subjectivity وهو قلب كل النزاعات والقضايا غير المحلولة فيما أصطلحنا عليه بالمباضعة.

* https://www.218tv.net/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%BA%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA%D8%8C-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%B3/