Atwasat

ذاكرة الوجع.. الإبادة الجماعية في ليبيا (1-2)

إبراهيم حميدان الأربعاء 10 مايو 2023, 05:24 مساء
إبراهيم حميدان

حين غزت إيطاليا ليبيا في أكتوبر1911 وكانت حينئذ تابعة للدولة العثمانية وتسمى طرابلس الغرب تمييزاً لها عن طرابلس اللبنانية، اعتقد صانعو القرار أنه سوف يجري الترحيب بهم من قبل السكان المحليين، وفي أسوأ الأحوال سوف يخوضون معارك عسكرية محدودة نتيجة نقمة السكان وكراهيتهم للحكم العثماني الاستبدادي الذي أدى إلى تأخر الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد، لكنهم قوبلوا بمقاومة صلبة، ما أدى إلى هزيمتهم في معركة القرضابية أواخر 1914، الأمر الذي اضطرهم، إضافة إلى دخول إيطاليا في الحرب العالمية الأولى، إلى إعطاء قادة المقاومة الليبية بعض الاستقلال الذاتي 1914-1922. مع وصول الحزب الفاشي إلى الحكم في إيطاليا بقيادة موسيليني في العام 1922 جرى إلغاء هذه الاتفاقات وانتهج الاستعمار الإيطالي سياسة وحشية جديدة لإخضاع المستعمرة وهزيمة المقاومة، وما بين العامين 1929و1934فقد آلاف الليبيين حياتهم نتيجة عمليات الترحيل والاعتقال التي قام بها الاستعمار الفاشي الإيطالي للسكان المحليين من برقة إلى المعتقلات في صحراء وسط سرت.

يتقصى كتاب الدكتور علي عبداللطيف حميدة (الإبادة الجماعية في ليبيا، الشر تاريخ استعماري مخفي) الصادر في 2023 عن «مجمع ليبيا للدراسات المتقدمة» بالتعاون مع «كلام للبحوث والإعلام»، وقام بترجمته الدكتور محمد زاهي المغيربي، يتقصى التاريخ الخفي للإبادة الجماعية لليبيين خلال المرحلة المذكورة، ويعتبر الباحث عمليات ترحيل الليبيين المشار إليها، إبادة جماعية لأنها عملية تنطبق عليها الاشتراطات التي حددها رائد دراسات الإبادة الجماعية الباحث القانوني البولندي رافائيل ليمكين في العام 1948 في مؤتمر الأمم المتحدة، حيث حدد على وجه الخصوص شرطين: أولاً، نية تعمد القتل، وثانياً، سياسة تدمير أنماط الحياة الجسدية والبيولوجية والثقافية» (ص50).

أسفرت الإبادة الجماعية وفقاً لمؤلف الكتاب عن فقدان 83000 مواطن ليبي حيث انخفض عدد السكان من 225000 إلى 142000مواطن، وأجبر حوالي 110000مدني من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال على السير من منازلهم عبر الصحراء القاسية ثم حجزوا لعدة سنوات في تلك المعتقلات المروعة.
لقد أراد الإيطاليون تفريغ الشرق الليبي من سكانه، لضرب الحاضنة الاجتماعية للمقاومة التي كانت قد قمعت في الغرب لكنها استمرت فى الشرق والجنوب حتى العام 1932 برغم الخلل في ميزان القوى مع المستعمر، ما قاد الفاشيين إلى خطة المعتقلات والإبادة الجماعية، بالإضافة إلى سعي الاستعمار الفاشي إلى تحقيق الهدف الرئيسي: توطين المستوطنين الطليان، فبعد تفريغ الأرض من السكان الأصليين، كانت أراضيهم تمنح للمستوطنين الإيطاليين، ووصلت الموجة الأولى البالغ عددهم 20000 مستوطن في خريف العام 1938(ص195).

واجه الباحث صعوبات جمة من أجل العثور على البيانات والملفات المتعلقة بالإبادة الجماعية والتي استغرقت عقداً ونصف العقد من البحث بسبب الصمت في المؤسسات البحثية الإيطالية حول هذا الموضوع، وعندما توجه إلى إيطاليا ليبحث في أرشيف جامعاتها ومؤسساتها البحثية، توصل إلى نتيجة مفادها أن ملفات أرشيف الدولة الإيطالية في المعتقلات قد تعرضت للتلاعب وأن بعض الملفات المهمة حول المعتقلات لا يعرف مكانها. لقد وضع الاستعماريون الفاشيون السابقون عقبات وقيوداً أمام الوصول إلى ملفات الجرائم الحساسة، وخاصة المعتقلات والتي ربما كانت من أسوأ جرائم الإبادة الجماعية في تاريخ الفاشية الاستعمارية الإيطالية وتاريخ الاستعمار في أفريقيا والشرق الأوسط، باستثناء الكونغو وناميبيا والجزائر (ص94)
إضافة إلى ذلك توجه المؤلف إلى الأرشيف الإنجليزي والأميركي والمصري والتونسي بحثاً عن المعلومات المتعلقة بحقيقة الإبادة الجماعية، وعلى الرغم من أهمية المعلومات القليلة التي توصل إليها هناك، فإن الجزء الأكبر من العمل الميداني والبحثي كان داخل ليبيا، من خلال الاطلاع على جهود المؤسسات الأكاديمية المختصة مثل جامعة بنغازي ومركز الجهاد للدراسات التاريخية وجامعة سبها والمكتبات الخاصة لعدد من الباحثين الليبيين ومنظمات المجتمع المدني مثل جمعية ذاكرة المدينة حول هون. وجميعها تعتبر من المصادر المهمة التي اعتمدها الباحث وخاصة مشروع التاريخ الشفوي الذي تولاه مركز الجهاد للدراسات التاريخية فقد كان من المصادر الرئيسية للبحث، واعتبر الباحث هذا المشروع أحد أبرز مشاريع التاريخ الشفوي في العالم حيث أنجز المركز 15000 مقابلة شفوية مع أشخاص ما زالوا على قيد الحياة خلال الفترة 1977-1985 وكذلك بين العامين 2005 و2008 وقد نسخت هذه المقابلات ونشرت ضمن سلسلة موسوعة روايات الجهاد صدرت عن المركز، واكتشف الباحث 220 مقابلة مع ناجين من المعتقلات في المجلدات المنشورة، وأجرى 30 مقابلة أخرى، كما تمكن من الوصول إلى مقابلات التاريخ الشفوي غير المنشورة والتي تسمى أرشيف الروايات الشفوية بالمركز. ومن خلال زيارات الباحث لأسر ضحايا المعتقلات تحصل على رسائل قيمة وقصائد وتسجيلات لمواد من سجناء المعتقلات، إضافة إلى الرسومات عن المعتقلات رسمها بعض الناجين في بنغازي، وهي المعتقلات التي قام بزيارة خمسة منها اعتبرها من أقسى المعتقلات: سواني تربة، والبريقة، والعقيلة، والمقرون، وسلوق. ويقول عند نهاية زياراته الميدانية إلى المعتقلات الخمسة: «كنت مذهولاً ومصدوماً، وخاصة من مشهد القبور والمقابر. عدت إلى بنغازي مرتعشاً ومذعوراً (...) لقد أدركت لماذا لا يزال الناجون تطاردهم أهوال ما حدث في المعتقلات، وكيف أنه من العبث إنكار أو مناقشة ما إذا كان ما حدث تطهيراً عرقياً أو من ضحايا الحرب. هنا، تظل الصدمة الثقافية حية ولكن معها أيضاً عملية التعافي الجماعي والشفاء من خلال الشعر والسرد الشفهي، والترابط مع الأجيال الجديدة من الأبناء والأحفاد. كما أنني أدركت رياء نظام القذافي في الحديث عن جرائم الاستعمار الإيطالي ولكنه لم يفعل سوى القليل لصيانة مواقع أسوأ جرائم الاستعمار الإيطالي أو الحفاظ عليها» (ص134)

يشير الباحث إلى مصدر آخر مهم في موضوع الإبادة الجماعية، وهو الشعر الشعبي الذي يعده المؤلف أحد المصادر الرئيسية في الثقافة الوطنية الريفية والبدوية الليبية والذي كان وسيلة ثقافية عظيمة في التواصل بين الناس في المعتقلات وخارجها، ولاحظ الباحث أن الشعر الشعبي لأولئك الضحايا الذين أجرى معهم المقابلات عبر عن جانب وجداني وثقافي وإنساني فريد، ووثق لتفاصيل هذه الجريمة. لقد تمكن الليبيون الذين كان معظمهم أميين من تأليف القصائد التي عكست مشاعرهم داخل المعتقلات حول أهوال الاحتلال الإيطالي حيث أسهمت على سبيل المثال قصيدة «مابي مرض» للشاعر الشعبي رجب بوحويش أحد ضحايا معتقل العقيلة في استمرار ذكرى المعتقلات في أذهان الليبيين الذين كانوا يحفظونها ويتناقلونها جيلاً بعد جيل. وكانت هذه القصيدة التي عرفها غالبية الليبيون رد فعل لامع ودامغ على أهوال المخيم وتأثير القتل والمعاناة على البدو شبه الرحل المحبين للحرية.

يصل المؤلف إلى نتيجة مفادها أنه «بدون التاريخ الشفوي، وقبل كل شيء الشعر الشعبي للمعتقلات لما كان هناك تاريخ لهذه الإبادة الجماعية الليبية باستثناء ما هو مدفون في السجلات الإيطالية». (ص232)
من جانب آخر لاحظ الباحث أن موضوع الإبادة الجماعية في ليبيا لم يحظ باهتمام المؤسسات الأكاديمية في ليبيا، إذ لم يصدر سوى كتاب واحد حول هذا الموضوع وهو كتاب يوسف سالم البرغتي وصدر عن المركز العام 1999 بعنوان (المعتقلات الفاشية في ليبيا).

كما يلاحظ أن النظام الملكي ورث بلداً محطماً وممزقاً، وبالتالي كانت الأولوية بالنسبة إليه لسياسة التوافق والتركيز على نشر التعليم وبناء اقتصاد الدولة، وتم قمع الأسئلة الأكثر صعوبة، بما في ذلك الإبادة الجماعية في المعتقلات. في حين أن نظام القذافي المعادي للاستعمار والغرب، بدأ منذ السبعينيات ممارسة الضغوط على إيطاليا لتعويض ليبيا عن المرحلة الاستعمارية والاعتذار للشعب الليبي عن جرائم الحرب، وبرز موضوع الجهاد ضد الاحتلال الايطالي بشكل قوي في وسائل الإعلام وتم إنشاء مركز الجهاد للدراسات التاريخية، وأجرت الإذاعة والتلفزيون مقابلات مع قدامى المجاهدين، وتم إنتاج فيلم عمر المختار، وفي العام 2008 حقق طلب التعويض والاعتذار غرضه عندما وافق رئيس الوزراء سيلفيو برلسكوني على تقديم اعتذار لليبيا يصفه المؤلف بأنه «اعتذار غامض» مضيفا: «لم تكن اللغة واضحة للغاية، حيث استلزمت فقط كلمة «آسف» البسيطة للاعتذار عما حدث لكن القيادة الليبية اعتبرته انتصاراً واضحاً للشعب الليبي» (ص308) وتم دفع مبلغ خمسة مليارات دولار كتعويض عن جرائم فترة الاستعمار الإيطالي ومن باب الإنصاف يدعو المؤلف إلى منح القذافي أكبر قدر من الفضل في ذلك. إذ لم تعتذر أية دولة أوروبية أخرى عن الفظائع الاستعمارية في أفريقيا، باستثناء ألمانيا، ولكن- يستدرك المؤلف- لم يتلق الناجون من المعسكرات أي تعويضات، ولم تكن هناك محاكمات لجرائم الحرب الإيطالية التي ارتكبها الإيطاليون وعساكرهم الاستعماريون المجندون محلياً من ليبيا. ولم تكن هناك محاولة لتثقيف الأميين أو فتح النقاش حول التاريخ المسكوت عنه أو إعادة بناء المعتقلات أو تكريم الموتى من خلال نصب تذكارية جديدة، ويختم المؤلف تعليقه على اعتذار إيطاليا، في التحليل الأخير، كانت خطوة إلى الأمام لكنها لم تكن أكثر من حملة علاقات عامة للنظام وصفقة تجارية للحكومة الإيطالية، حيث وافقت ليبيا على التعاون مع منح استثمارات كبيرة للشركات الإيطالية في الاقتصاد الليبي. وكانت النتيجة الأكثر إيجابية هي بدء التعاون بين العلماء الايطاليين والليبيين لإعادة كتابة تاريخ المعتقلات. (ص309)