Atwasat

المصرية هيباتيا والأندلس

سالم العوكلي الثلاثاء 02 مايو 2023, 11:20 صباحا
سالم العوكلي

في زمن ما ليس بعيداً، وفي ظرف ما، كتبت مقالة عن المخرج السينمائي المشاكس خالد يوسف تحت عنوان: «عقاب الخروج عن النص» ونُشرت في موقع 218 بتاريخ 4 مارس 2019، وكانت في المجمل دفاعاً عن الفنان والفن وحرية الرأي، على غرار مقالة نشرتها عن المطربة شيرين عبدالوهاب التي تعرضت لضغوط بسبب رأي قالته في مزحة، وكلها تأتي في سياق الدفاع عن نفسي وعن كل الحالمين الذين اختاروا مهنة الفن سبيلهم للدفاع عن كل ما يمت للجمال الإنساني بصلة، وأيضاً عن الفزع الذي ينتبانا كلما تعرض مَعْلم جمالي للأذى، سواء أكان فناناً، أو معلماً أثرياً يزال، أو غابة تحرق، أو نسيما يلوث.

بعد نشر المقالة، وجدت في الماسنجر رسالة دافئة من الفنان خالد يوسف، يشكرني فيها على المقالة التي وصفها بالجميلة، وأبدى تحفظاته بأسلوب مهذب عن بعض ما جاء فيها من عدم دقة بعض الوقائع. واعتذرت بدوري، موضحاً فكرتي الأساسية من المقالة التي غايتها الدفاع عن الجمال إلى آخر ما ذكرته سابقاً، واستمر الحوار متقطعاً بيننا، ولأنه كان حواراً على الخاص فلن أتطرق إلا إلى ما كان مهماً ويدور حول قضايا عامة، والسينما خصوصاً التي تشكل لب اهتمام خالد الذي طالما أعجبتني أعماله، وهو المتتلمذ على يد قامة سينمائية كبيرة طالما شغلها التفكر عبر الصورة والدراما، يوسف شاهين، وخالد امتص رحيق شاهين ثم قدم سينماه الخاصة به وبرؤيته.

كنت فترتها أراجع ترجمة الصديق نجيب الحصادي للعمل الضخم «دليل كيمبردج للفلسفة»، وعثرت على مدخل حول الفيلسوفة المصرية القديمة (هيباتيا) يرد فيه: «فيلسوفة أفلاطونية- محدثة عاشت ودرّست في الإسكندرية. قُتلت بوحشية على يد عصابة مسيحية بسبب ارتباطاتها بحاكم المدينة، الذي كان على خلاف مع أسقفها العدواني، سيريل. ويقال إن لها شروحات على أعمال رياضية بعينها، غير أنه لم يبق من نشاطها التأليفي إلا آثار في شرح أبيها ثيون على الكتاب الثالث من عمل بطليموس المجسطي (Almagest)، الذي يقول ثيون إنه من تنقيحها. ويفترض أنها أقرت منهجاً تدريسياً أفلاطونياً-محدثاً، يستخدم الرياضيات سلَّما للعالم القابل للفهم. ويمكن أخذ انطباع عن مراجعاتها من دراسات، وترانيم، ورسائل تلميذها سينسيوس، أسقف توليميس وهو أديب مميّز. ويمكن قفو شهرتها في العصر الحديث إلى النزعة المضادة لرجال الدين التي تبناها التنوير، والعرض الأكثر أهمية لأعمالها هو الرواية التاريخية الوعظية لتشارلز كنجزلي هيباتيا أو خصوم جدد بوجه قديم Hypatia or New Foes with an Old Face) (1853).).  ويبدو أن حقيقة أنها لم تكن فحسب ذكية، كما يشهد الأقدمون، بل أيضاً جميلة وأنها أثارت عاطفة شهوانية عند أحد تلاميذها (على أقل تقدير)، وأنها كانت عارية تماماً قبل أن تذبح، أسهمت في إحياء الاهتمام بها».
واكتشفت في هذه الفيلسوفة ونهايتها التراجيدية شخصية تغري صناع السينما التاريخية، خصوصاً أن التنكيل بالعقل المخالف الذي تطرق له شاهين في فيلمه «المصير» عن ابن رشد، ما زال مستمراً، وخصوصاً أن هذه المتفكرة المتمردة جزء من سيرة ضفاف النيل القريبة من عيون ووجدان خالد يوسف. وبعثت برسالة لخالد هذا نصها «هيباتيا المصرية. شخصية تستحق أن يُنتج عنها فيلم ضخم، فلسفي أيروسي تراجيدي يليق بنهايتها العظيمة» وكان الرد الذي توقعته من مخرج مطلع وشغوف بمثل هذه الشخصيات: «هيباتيا أحد مشروعاتي السينمائية التي أحلم بصنعها من زمان. هي حدوتة كل الأمكنة والأزمنة.. واتخانقت مع يوسف زيدان بسببها كتير.. لكن لو لديك قراءة لقصتها مغايرة أو بها بعد ترى أنها ممكن تضيف ياريت ارشادي عليها». ولأني حقيقة لم أسمع بهيباتا أو أعرف بها إلا من خلال قراءتي لهذا المدخل بشأنها، أخبرته «أني الآن فقط وجدت هذا المدخل حولها لكن الحكاية تحتاج إلى مختص يسرد قصتها وأحداث زمنها وسيناريست محترف. وسيكون إخراجك مميزاً أكيد. كليوباترا تمثل السلطة وهيباتيا تمثل المعارضة والتنوير لذلك هي قريبة منك وستفهمها وتفهمك». وكتب خالد: «قريت كام مرجع استند ليهم يوسف زيدان في روايته». ثم نقل الحوار إلى مشروعه الراهن (فيلم الأندلس) واقترح أن أبدي رأيي في معالجته الدرامية المبدئية «هابعتلك مشروع فيلم الأندلس تقراه وتقولي رأيك» وبالطبع أنا من عشاق السينما ولكن ليس لدرجة أن أبدي رأياً مهماً في هذا المشروع الضخم كما وصفه، وكل علاقتي بالسينما كانت عبر الفرجة والاستمتاع. ولكن بعد اطلاعي على المعالجة، رأيت أن أداخل بشأنها من جانب ثقافي يتعلق بالخطاب وبأهمية الريبة النقدية فيما يتعلق بتناول الأعمال التاريخية سينمائياً أو روائياً، وبعثت انطباعي في نص طويل أختار منه بعض الفقرات:
«أخي خالد.. أسئلة شائكة التي طرحتها في مقدمة المعالجة، حيال مفاهيم الغزو والتوسع والإشعاع والتلاقح الحضاري، أو ما يسمى مبدأ التدافع البشري، وأعتقد مثلما الغلاف الجوي والأكسجين والمياه والرياح مهمة لحياة الكوكب فهذا التدافع كان مهماً لإثراء الحياة فوق الكوكب وربما لاستمرار الكوكب نفسه، فكل ما في الكون يتحرك وكل هذه الحركة ليست عشوائية، طاقتها ومنظمها هو (الجاذبية). وأرى أن وراء هذا الحراك البشري، وهذا النزوح العظيم من مكان إلى مكان، والإمبراطوريات التي تتوسع وتأفل، ثمة قوانين جاذبية تحكم دورانها وحركتها، خصوصاً والحضارات تُرسم عادة على شكل منحنى بما يوحي بالدائرة، والأمير عبدالله استلم مملكة غرناطة والإمبراطورية قرب نهاية المنحنى. تظهر تجليات هذه الجاذبية وغموضها في الحوار بين عبد الله ودون جنتلو، حوارهما منطقي لكن يظل الغموض مسيطراً عليه.

تقف وراء هذه الدراما المتوترة في آخر أيام غرناطة قوة امرأتين (عائشة وإيزابيلا)، كل منهما تعجن بطلها لتحقيق أحلامها. عبدالله صنيعة أمه ذات الطموح الكبير، ودون جنتلو خادم لطموح إيزابيلا، وحضور المرأة خلف الأحداث الكبيرة في التاريخ وإن لم تكن في الواجهة معروف في أزمنة وأمكنة مختلفة. الأنثى هي بطلة هذه المعالجة الدرامية وأثرها واضح في صناعة التاريخ وتحريك أو تلقين أبطاله من خلف الكواليس. وأنا أقرأ المعالجة تخيلت مشهداً افتراضياً لعائشة أم الملك التي تقرر أن تعد له حلوى أندلسية بيديها وأثناء العجن ترسم له مستقبله، فمعظم أبطال التاريخ كانوا مثل العجينة بين يدي معشوقاتهم أو أمهاتهم. ثمة ملمح لأسطورة أوديب في تعلق عبدالله بأمه والاستيلاء على ملك والده، لكنه أوديب المرهف والرومانسي الذي لم يقتل والده وإن قتله رمزياً، ولم يفقأ عينيه حين انكشف السر.

المعالجة ثرية جداً بالدراما وبالروح التراجيدية لأبطالها لدرجة أحسست أن تحويلها إلى سيناريو لن يكون سهلاً، خصوصا لعبة الفلاش باك التي عليها أن تتلاعب بالزمن دون أن تُحدث شرخاً في السرد وهذه لعبتك. جميل أنك مسكت خطاً درامياً يخدم رؤيتك وتأويلك لهذه الأحداث التاريخية الكثيفة، ويقدم البعد الإنساني للشخصيات في ذروة حالات مرحها وقوتها وضعفها. الجوهر الإنساني الأصيل لا يتغير سواء كان في قلب الانتصار أو الهزيمة، وهذا ما تمثله الشخصيتان الرئيسيتان. تنتصر لقدرة الإنسان على الحوار مع خصمه وحتى أثناء نزيف الدم بينهما وهذا خطاب أخلاقي سامٍ أقرب إلى الأسطورة. فلم عمر المختار كان تعيساً للأسف وحوّل العمل إلى ما يشبه أفلام رعاة البقر، وكأنه صراع بين البيض والهنود الحمر، لكن أهم مشهد فيه كان لقاء جراسياني بعمر المختار في غرفة مغلقة وذلك الاحترام المكبوت الذي تولد بينهما، وحكم عليه بالإعدام وهو في ذروة الاحترام له. ليس هذا دعاية للفاشية لكنه بحث عن الجوهر الإنساني الذي عادة ما تردمه أو تخفيه الأحداث الكبيرة والحروب ونزوات السلطة.

بالعودة إلى حوار المختار وغراسياني وحدهما، ولأن الفيلم تاريخي، اُثيرَ سؤال حول اللغة المشتركة بينهما، فالمختار لا يتحدث اللغة الإيطالية وجراسياني لا يتحدث العربية، ما نأى بالمشهد والحوار المهم عن المصداقية لدى المشاهد الذي يعتقد أنه يتفرج على وثيقة تاريخية وليس مجرد فيلم . يتكرر كثيراً إلغاء المترجم في الأفلام التاريخية من أجل انسيابية الحوار سينمائياً، ولا أعرف ما إذا كانت هذه الضرورة الفنية تغفر عدم الإخلاص للواقعة التاريخية. سيثار هذا السؤال حول الحوار المهم بين عبدالله والقائد الإسباني دون جنثلوا. ما هي اللغة المشتركة بينهما؟ أم أن الخطاب السينمائي من حقه أن يخفي المترجم ضمنياً من أجل الحفاظ على الإيقاع الدرامي للسرد السينمائي.

ملاحظة أخيرة: لاحظت أن بعض الأسئلة الواردة في المعالجة قد تنزاح بالعمل إلى نوع من الرطانة الخطابية. على الفيلم أن يفكر، ولكن يفكر بأدواته السينمائية البصرية، وعلى الأحكام الأخلاقية أن تكون معلقة لأن أخلاقية الفن الوحيدة هي المعرفة أو البحث عن المعرفة، فكل الحديث عن الإرث الحضاري يجب أن تتكفل به الدراما وحدها ولا يحشى في لغة الحوارات، خصوصاً أن الحضارات تُقرأ نتائجها بعد حقبة طويلة وليس أثناء حدوثها، وشخصيات الفيلم المنغمسة في الأحداث لا تتصور آنذاك ما وصلنا إليه من تقييم بعد قرون، أو ما وصل له المؤرخون والمفكرون الذين تعاملوا مع تلك المرحلة المهمة التي استمرت 800 سنة تتفاعل فيها ضفتا المتوسط».