Atwasat

حوارية شل الحركة

نورالدين خليفة النمر الثلاثاء 02 مايو 2023, 11:17 صباحا
نورالدين خليفة النمر

ما شدني في مداخلتي المرتجلة العام 2000 بمناسبة صدور الطبعة الأولى لمجموعة الكاتب عمر أبوالقاسم الككلي «صناعة محلية» تجاوزه للترميز المخفي بما أسميته بالترميز المكشوف: المحاججة واحدة من آلياته الأسلوبية التي تتوخى ضرب المساءلة ـ المحققة المضمرة بالسخرية المتهكمة وهي: الآلية المفارقة التي بينتها بشكل لافت قصة «آفاق الإمكان» التي تعتبر قفزة شاسعة تجاوز بها الككلي قصته المرموزة بـ«القفزة» في مجموعة «الشيء الذي ينأى».  

قبل دخوله السجن في أشعاره المبتدئة، وقصصه التي صار لها «الشيء الذي ينأى» عنواناً مجموعاً: كـ«تلوين» و«مشهد غير كامل من جريمة كاملة» و «النسف» وحتى القصص التي كتبها في مبتدأ السجن كـ«مسارب الحب فى أحراش الفداحة»، و«الاحتشـــــاد» كانت تُلفتني شعريات لغة قصه دون مضامينها الذي افترض الكاتب رمضان سليم وصفاً شعارياً لها في مقاربته النقدية لـ«شحاذ الحب».
وبعد خروجه سنة 1988 ترصدت المتغير المضموني بالاستبدال الديالوغي للمونولوغ في كتابته فوجدته في مجموعة «منابت الحنظل» في قصص «أثناء شرب الشاي» و «دعوة على الغداء»، و «أكوام الريش» أو قصة «تعليقات» في مجموعة «صناعة محلية»: عن شباب يطعنون صاحب سيارة ركنها بشكل لم يرضهم بعد حوار مقتضب، وحاف. يعني قص الشيء، ليس الذي ينأى، بل الذي يقترب ويحدث فعلياً في الواقع الليبي العنفي الذي أبعده عنه السجن إلى واقع عنفي مختلف والذي صدمه إبان خروجه وما زالت تصدمه كاتباً تداعياته.

كتابة «الشيء الذي ينأى» منولوغية تُكلّم محاورها أي شخصها، وإن افترضت وافتعلت محاوراً توهمياً، لتصير بدءاً من «صناعة محلية» ديالوغية يتقاسمها طرفان لغرض موضوعي كقصة «آفاق الإمكان» التي كتبت العام 1979 بعد سجنه بأشهر. 
قصة «آفاق الإمكان» تذييلها بالمكان الذي كتبت فيه وهو: «سجن الجديدة» بالعاصمة طرابلس الذي كان محطة في سجنيات السارد بضمير الكاتب يكشف كل رموزها، بل يعرّي كل كنايات السجن فيها: الكمائن المحكمة، والقفص، والمساحة الضيقة، كذلك القضبان وفظاظة المعدن ومناعته، نهاية بالحارس الذي تكشف أفعالَه وتعريها رّدات أفعال مسجونيه. إذ هو بقضيب طويل من الحديد، يخز الأسد مستهدفا تسلية الجمهور أو يرمي للأسود «فضلات» اللحم كي تحمي نفسها من الموت جوعاً في إجابة «الحارس» أو أنها لا بد أن تكون حية حتى تتمكن من الخروج في تكهّن «السارد». كما أن الأفعال وردود الأفعال تتمدد في مساحة القصة، فتحت وطأة الضيم والألم، «يزأر الأسد زئيراً عنيفاً». «يتراجع- بسببه- الحارس مضطربا». ولبرهة «يبقى الأسد واقفاً بتحد تشتعل عيناه بغضب حارق ووعيد»، وإن كانتا «مشوبتين بمرارة العجز والمهانة». كان «الزئير عصبياً، ينوء بالعجز، ويتقد بالتوعد»، «خبط الحارس بالقضيب على القفص مصدراً صوتاً غليظاً مزعجاً، رد عليه الأسد بزئير قوي، «زئير يبعث في وجداني [السارد] مزيجاً من الرهبة، والأسى، والخوف». أو التوقعات/ التخيلات «خيل إليَّ بأن القضبان يمكن أن تتحطم، أمام هذا الغضب، في أية لحظة».. «أخذت كل الأسود تزأر بعنف، على حين أخذ الأسد الذي كان يضايقه الحارس يعض قضبان القفص». «لكن أنيابه، رغم حدتها القاسية، تتراجع أمام فظاظة المعدن».
الوصف في «آفاق الإمكان» يتأسس على الحركة، التي تقوم، كما بينا آنفاً، على الأفعال وردود الأفعال. بينما يأخذ السرد طبيعة الاستفزاز والاستثارة: «أحببت [السارد] أن أستثيره [الحارس] «أحببت [السارد] أن أخلخل اطمئنانه [الحارس]».
الحوارية في «آفاق الإمكان» تنتهي بكف حركة الطرف الآخر موقتاً. ولكنها لا تشلها تماماً.. «لكنى لاحظت [السارد] أنك [الحارس] تتقهقر مضطربا كلما زأر الأسد في وجهك!. قال [الحارس] وقد شعر بانفضاح ضعفه الداخلي:- الحقيقة، في تلك اللحظة، أنسى القفص!./- [السارد]: لا بد أنك [الحارس] سمعت عن حالات خرجت فيها أسود محبوسة من أقفاصها. [السارد]: لم أنتظر الإجابة، قلت لصديقي: هيا نخرج». 
تظهر الحوارية في قصة «آفاق الإمكان» مرغوبةً، ومُرضية لـ:«قارئها». وتبدو نتيجتها واضحة في التفوق المعنوي لمساءلة بله محاججة الطرف الأول [السارد] مقابل الإضعاف المعنوي للطرف الثاني [الحارس] بعد استفزازه واستثارته بالأسئلة والذي وإن خلخلت المحاججة اطمئنانه، إلا أنها لم تكن ضامنة ما توحي به القصة من أنها تكّفْ أفعاله تماماً.

في «آفاق الإمكان» نلحظ تصيير الدلالة الإيحائية بأن تكون بديلاً عن الدلالة الذاتية المهيمنة في قصص «الشيء الذي ينأى»، وبأن تكون أساس النص في قصص الككلي، من «صناعة محلية» إلى السجنيات إلى منابت الحنظل. وأن تكون أنى وُجدت في قصص المجموعات الثلاث هدف دراسة الأسلوبي التكويني. ونقصد «الأسلوبية» التي تُعنى بدرس الكتابة كونها تتفوّق بالتعبير الكانطي على: الشيءـ في ذاته. 
في نص «الكلب والسيارة» نقرأ ضرباً جديداً من ضروب حوارية قصص الككلي: وكان رده [الشرطي] بأنه إذا كان ثمة أناس غير عقلاء ولا يفهمون فليس عليَّ [السارد] اتباعهم! فرددت  عليه [السارد] ، بأنهم، على العكس، عقلاء جدا ويفهمون ومع ذلك يلقون بقمامة منازلهم هنا، لأنه لا توجد خدمات نظافة عامة، وأنا مثلهم لدي قمامة ولزاما عليَّ التخلص منها. فجاوبني «[الشرطي] بأن هذه مشكلتي وعليَّ أن أتدبر حلها! فقلت له [السارد]، إذن فلقد تدبرت الحل وألقيت بها هنا، بسبب عدم وجود خدمات نظافة عامة». 
إن ما نتقصده في قراءة الحوارات الحجاجية في نصوص مابعد السجن للككلي، يتعدى الدراسة الأسلوبية إلى دراسة توخيناها في تحليلات سابقة «ظاهراتية»، تثبت حركة أشياء العالم بالتعبير الفينومنولوجي داخل «الأقواس». وهي ما يمكن وصفه بـ«الحوارية الواقعية» التي قادت المواجهة اضطراراً بما وُصف في نص «الكلب والسيارة» بوضع شل حركة الملك، في لعبة الشطرنج، حينما لا تكون معه قطعة أخرى يمكنها الحركة ولايمكنه هو أن يتحرك stalemate فتنتهي المباراة بالتعادل!.

إن الحوارية آلية أسلوبية في كتابة الككلي. ولكنها لا تتجاوز نفسها إلى جدلية بين حجة وأخرى مضادة ينتج عنهما مركب ثالث في صورة تبادل حسب النسق الذي اقترحه لدرس لسني الأدب ميخائيل باختين البنيوي تزفيتان تودورف بـ«المبدأ الحواري» بما يعرّفه دومنيك مانغونو بـ Dialogism أي الحوارية التفاعلية حيث يصبح موضوع الخطاب لا محالة الموطن الذي تلتقي فيه آراء المتخاطبين المباشرين في الحديث والنقاش أو المتواجهين الطبقيين الأيديولوجيين في الواقع الفعلي وهي الحوارية المفارقة للحوارية التناصية المدلولة بالألفاظ البلاغية والمتبنينة بالطريقة المتمثلة في تضمين الحوار المتخيل أو الفعلي أسلوباً في صلب الملفوظ الأدبي.