Atwasat

أسلوب ما بعد السجن

نورالدين خليفة النمر الثلاثاء 25 أبريل 2023, 12:47 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يصعب الحديث عن أسلوب يخص الكاتب عمر أبوالقاسم الككلي قبل أن تصدر مُفتتح عام 2000 الطبعة الأولى لكتاب «صناعة محلية»، الجامع لقصص السجن 78 ـ 1988 وما بعده 89 ـ 1992. حيث أعاد تموضعه بقصص بعضُها شكلتها تجربة السجن وأخرى الخروج منه، بما يمثل نقلة لافتة بصمت أسلوبه ارتضى نشرها في المتاح من مطبوعات الصناعة المحلية، التي افترض بحسن نيته كاتباً أنه في أسوأ الأحوال بها هامش واحد، والتي صاغ معادلتها في قاعدة: «بأنه إذا توفر هامش، وقليل من الشفافية، يمكن التحايل لتعويض الآخر».

يمكن تعربف القصص المنشورة في «صناعة محلية» بأن أسلوبها هو مضمونها المتمحور حول شخصية الكاتب المنتحل دور ساردها. وبذلك تكون قد أعادت تكريس الككلي أن يكون كاتب القصة الليبية المتجاوز لكل ما كتب من قصص في عشرية تغييبه سجناً في المعتقل السياسي. بل أن يكون كاتباً متفوقاً حتى على الرموز من كتاب القصة الستينيين الذين استلهم رؤيتهم الليبية التي لم تتوفق بعد في صياغة أسلوبها. ونعني ـ المقهور، والهاشمي، والشريف ـ بأن يتميز عنهم منفرداً دون الجميع بأن يتماهى أسلوبه/مضمونه مع شخصه. وهو ما يجعلنا نستدعي من كتاب بيليت «البلاغة والأسلوبية» عبارة «بيفون» الشهيرة فنستبدل لفظة «الرجل»، بـ«الشخص»: الكاتب الذي هو أسلوبه.

في كتابة الككلي قصة سيرة، وسيرة قصة، يظهر لأول مرة- وتقريباً ليس بعد ـ في كتابة القصة الليبية المفهوم الوظيفي للكتابة الذي صاغه في «الكتابة في درجة الصفر» الأسلوبي ـ التكويني رولان بارت. «حيث تتجاوز الكتابة القوة العشواء للسان والأسلوب، لتصير فعل تضامن تاريخي. فاللسان والأسلوب هما موضوعان، أما الكتابة فهي وظيفة، وهي العلاقة بين الإبداع والمجتمع، وهي اللغة الأدبية، التي تحولت بمقصدها الاجتماعي. إنها الشكل الحبيس مقصده الإنساني والمرتبطة تبعاً لذلك، بأزمات التاريخ المفصلية لمجتمع ما».

نشر «الشيء الذي ينأى» وهي المجموعة القصصية الأولى التي كتبت قبل السجن خلال الأربع سنوات من 1975 إلى 1978، معزولة في «منابت الحنظل» بعد صناعة محلية وسجنيات: اللتين اجترحتا مضمونياً وشكلياً أسلوب كتابة وصفتها بالترميز المكشوف في مداخلة شخصية العام 2000 كونها آلية تحايل بارزة من آلياته: سُبّقت فيها الدلالة الإيحائية على الدلالة الذاتية في أن تكون الإطار الأساسي الذي يتحرك ضمنه النص، وعالمه ومحيطه. وأن لا تُجعل الذاتية العنصر الرئيسي في تكوين «أدبيته» التي اجترح لها الكاتب الككلي وصف «القصة ـ القصيدة» حيث كانت سمة لمجمل نصوصه المبكرة في «الشيء الذي ينأى» وهي قصصه التي كانت لافتة بشعرية لغتها دون النظر إلى مضامينها المفرطة في ذاتيتها بل نرجسيتها. هذه النقلة المشهودة في قصص «صناعة محلية» تتوافق مع ما اقترحه الأسلوبيون وما بينه جورج مولينيه في «الأسلوبية» بأن: «الدلالة الذاتية ترتبط ارتباطاً تاماً بالسياق، وغالباً ما تأتي الدلالة الإيحائية لتحولها أو تحورها، أو حتى تشوهها». وهو ما صير الدلالة الإيحائية في «صناعة محلية» بديلاً عن الذاتية المهيمنة في «الشيء الذي ينأى» أساس النص في قصص الككلي، من سجنياته إلى سرديات عمره في سيرته. وأن تكون إن وُجدت هدف الدراسة «الأسلوبية» التي تُعنى بدرس الكتابة كونها تتفوق بالتعبير الكانطي على: الشيء ـ لذاته.

إن الشكلاني ما قبل الأسلوبي التكويني سينشد في «الشيء الذي ينأى» إلى نص اعتبرَ وقت كتابته نموذجياً تحت عنوان «تلوين» تبدو فيه «الوظيفة الشعرية»، التي تتميز بالتشديد على المرسلة لحسابها الخاص، وذلك بأن تكون وظيفة غائية تتجلى في إدراك الكلمة من حيث هي كلمة لا من حيث هي مجرّد بديل عن شيء مسمى أو تفجير عاطفة. فهي الوظيفة التي تتجلى في الكلمات من حيث كونها كلمات لها وزنها الخاص بها وتتمتع بقيمتها الذاتية ـ الداخلية. وليست فحسب تجلياً لنحوها، ومعناها، وشكلها الخارجي والداخلي. أي كإشارات محايدة بطريقة لامبالية تنزع هروباً إلى المتخيل أو المتوهم أحلام يقظة أو تتحايل على الظرف بترميزه بقصد كشفه وتعرية جذوره بالمحاججة، أو ترجع إلى الواقع المعاش باستعارته الليبية حياة من قلة الموت.

إن الأسلوب، هنا، يعبر عنه ما ينقله في «الأسلوبية» بييرجيرو عن ليو سبيتزر: بأنه «مصمم كمنتوج من منتوجات الفرد. وهو يبدو بوصفه واقعة معزولة، ومفردة، وغير قابلة للقياس مع أي أسلوب آخر. فالرغبة في محاصرة الشخصية «الفالتة» للكاتب تقود إلى تمييز تجربة، ووضع، وسمة، ومزاج خلف كل «رؤية خاصة للعالم»، يُبديها نص ـ شتات «الحسد والإبداع» حيث يخبرنا السارد بضمير الطفل الذي كانه، أن كتابته بدأت حسب ثنائية قبلي/ بعدي:بـ«ميتا ـ كتابة» أو ماقبل/ كتابة: «بدأ هذا التطلع، واشرأبت هذه الرغبة في سن مبكرة، قبل دخولي المدرسة (...) كان مفهوم التعلم غامضا لديَّ. انبثق لديَّ اعتقاد أنه يمكنني أن أكتب أنا أيضاً كتابة لا أعرف محتواها ولا أستطيع قراءتها. إذا لم يكن بمستطاعي أن أقرأ فربما كان بمقدوري أن أكتب، وتكون مهمة القراءة من اختصاص من تعلم الكتابة والقراءة!. لذا كنت آخذ ورقة وقلماً وأخط (لا أريد أن أقول أخربش) عليها شيئاً. كانت تبدو لي كتابة شبيهة بكتابة أخي (الذي تعلم القراءة والكتابة في مدرسة المدينة). لذا كنت أطلب منه أن يقرأها. فينهرني دون أن يتلطف بالنظر إليها».

هذا التصور القبلي المسبق عن الكتابة، هو «الهيولى» التي ستتشكل فيما بعد صورة، وهو «المونادا»، التي ستتركب إزاءها مونادات يتخلق منها عالم، وهو «النومن» الذي سيتمظهر «فينومناً»، وهو «الهو» الذي سيتبلور «وعياً». فاللغة التي تسقطها سارد قصة / سيرة الكاتب عمر الككلي، والتي كان المؤلم والمبهظ فيها أنها محصورة في حدود عالم إبيسية» الأب ـ المجتمع في «الشيء الذي ينأى، والأب ـ السلطة في صناعة محلية، وسجنيات، ومنابت الحنظل، والأب ـ الأبوية طبيعة فَظة في سرديات العمرـ أشتات الذات». هذه اللغة ـ الكتابة: تظل ذاتية ـ إيحائية، وبمنأى عن تطورات الأسلوبية الطارئة على بلاغة الكتابة الأدبية. فهي أي لغة كتابة قص/ سيرة تظل أداة أو بالأحرى وسيلة يقول بها الكاتب فكره وموضوعه، ولا يقدح فيها أن يُنظر إليها من قبل الأسلوبيات الطارئة بوصفها مخلوقاً ثابتاً لا يتكلم بنفسه عن شيء ولكن ككائن لغوي يتكلم به المبدع الذي سيصير كاتباً عن شيء، تشكل في طبيعة عائلية ـ مجتمعية سلطوية تجلت في بضعة من قصة سيرة ليبية مهيمن عليها «إبيسياً»، في عالم تظلله القسوة وتسوده الفظاظة وتحف به مظاهر الخشونة وشظف المعاملة الموصوفة فيما نقله غ. بشلار عن لسان «قس فاليمون»: دنيا من النادر أن نجد أنفسنا فيها في وضع مألوف، فمع كل خطوة هناك شيء ما يهين ويعذب العقول المعتزة بذاتها».

إن ما يشد الأسلوبية التكوينية التي ينتهجها المحلل البنيوي لكتابة الككلي في مجموع تجربته القصصية ـ السيرية هو تمطط الحدود الأجناسية. حيث يكون الجنس الدرامي: وهو تمثيل للحياة من خلال الأفعال وردود الأفعال سمة السيرة في القصة. بينما يكون الجنس السردي سمة القصة في السيرة، أي الكتابة عما يشغف المرء بوصفه قصة، ويكون متخيلاً أو متوهماً أو مرموزاً مرات، وحقيقياً وملاحظاً في الحياة الواقعية مرات أخرى.

وكما يبين رولان بارت في كتابه المستشهد به آنفاً محدداً وـ بالتعبير المنطقي ـ «مسوِّراً» هوية الأسلوب بأن: «اللسان هو ما قبل الأدب، والأسلوب هو ما بعده تقريباً. فالصور والإلقاء والمعجم تولد من جسم الكاتب، وماضيه لتغدو شيئاً فشيئاً آليات فنه ذاتها. وهكذا تتشكل تحت اسم الأسلوب لغة مكتفية بذاتها لا تغترف إلا من الميثولوجيا الفردية والأسرية للكاتب، وداخل هذه الفيزياء القاصرة للكلام يتشكل أول زوج من الكلمات والأشياء حيث تستقر مرة وإلى الأبد، الموضوعات اللغوية الكبرى لوجود الكاتب. ومهما بلغ الأسلوب من الرهافة يبقى فيه دوماً شيء من الفجاجة، إنه شكل لا وجهة له، إنه نتاج عنفوان وليس نتاج مقصد وكأنما هو البُعد العمودي المنفرد للفكر».

ما صدق المفهوم يجليه نص «الكلب والسيارة» النافذ في التعبير عن هشاشة الإنسان المسحوقة مبررات تصرفاته المضطر إلى اقترافها مخالفة لمبدأ النظام العام. إزاء سطوة السلطة اللامعقولة، وغشامة منطقها الذي يستند على أسانيد سفسطة تعكس منطق القوة العاسفة وحده. نقتطف للقراءة المُحللة من نص «الكلب والسيارة» الذي نجد فيه أنفسنا إزاء أسلوبية قص تنتفي فيها الأسلوبية حيث تكون تقريبا كل كلمات الجمل في الحواريات مصمتة وكافة وإحراجية وكتابتها في حافة درجة الصفر: «انتهت المواجهة عند هذا الحد. واكتشفت كم كنت محظوظا لأن زوجتي كانت معي وحمتني بمجرد وجودها دون أي تدخل. كما أنها، ولعل هذه هي المرة الوحيدة، أبدت إعجابها بموقفي قائلة لي بأني عرفت كيف أفحم الشرطيين. لكنني ظللت محتارا. ما الذي جعل هذا الشرطي البسيط يتجرأ عليَّ ويهددني بأنه كان يمكن له، لولا حماية زوجتي (الصورية)، أن يملأ سيارتي قمامة؟؟!!. وغالباً كان سيأمرني أنا شخصياً بملئها لأنه لن يقبل بأن يلطخ يديه"!

الاستثناء الأسلوبي الذي يكشفه النص هو: ما نقرأه دُعابة في القصة ـ السيرة التي يشي بها هذا المقتطف المنولوغي حيث ينضم القنفذ دفاعياً على شوكه في صورة كُرة.