Atwasat

الشاعر «السنوسي حبيب»: في ذكراه العاشرة

إبراهيم حميدان الأربعاء 12 أبريل 2023, 05:04 مساء
إبراهيم حميدان

في الذكرى السنوية العاشرة لرحيل الشاعر " السنوسي حبيب" صدر ديوان جديد تحت عنوان "رومنتيكيات سجنية"(1) وبهذه المناسبة أقيمت ندوة حول الديوان مؤخرا بالقبة الفلكية نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون بطرابلس.

"السنوسي حبيب" أحد رموز الحركة الثقافية والوطنية في بلادنا التي نعتز ونفخربها، ومن أولى واجبات المؤسسات والمنظمات الثقافية المستقلة والصحافة الوطنية أن تُذكّر بهؤلاء الرموز ليظلوا مشاعلَ على الطريق تنير دروب الأجيال الجديدة، من خلال التعريف بمسيرتها الثقافية وتجربتها في العمل الوطني. لقد كان الشاعر "السنوسي حبيب" شخصية على درجة كبيرة من التواضع، لم يسع إلى الدعاية الشخصية والترويج لنفسه، كما هو شأن الرموز الثقافية الكبيرة دائما، الذين يدركون أن التاريخ هو من سيقرر الأمر مع مرور السنين، ويفرز الحقائق فيبقيها فيما تسقط الأكاذيب وتتلاشى.

التحليق خارج القضبان

كتب "السنوسي حبيب" الشعر والقصة والمقالة النقدية، وكان أول ديوان يصدر له بعنوان "عن الحب والصحو والتجاوز" عام 1975، أي قبل عام واحد من إلقاء القبض عليه هو ورفاقه في مثل هذه الأيام من شهر أبريل من عام 1976، حيث غاب في سجون النظام الاستبدادي اثني عشر عاما، وهناك وجد نفسه يستعين بالشعر لدحر جدران الزنزانة، وليحلق بقصائده منتصرا على السجن والسجان، فأغلب القصائد في هذا الديوان تعكس مشاعر المقاومة والرفض والتحدي الذي كانت تمتلئ بها روح الشاعر فيعيد بثها في أشعاره كي يصمد هو ورفاقه داخل السجن ولا يدركهم الانكسار والموت.

يقول في قصيدة "رومنيكيات سجنية" كتبها داخل السجن عام 1986 أي بعد عشر سنوات من سجنه:

كلَّ مساءٍ كانت تخطر تحت نافذتي

نسمةً من شذىً ورقّة
حينها كنت أفقد الإحساسَ بكل شيءٍ
سوى حضورها المُبهج
الآن، وبعد عشر سنين من السجن
صار من عاداتي اليومية
أن ألوذ بذاكرتي كل مساء
باعثاً من جديد، ذاك التضوع المبهج(2)

بعد خروجه من السجن أصدر "السنوسي"أربع مجموعات شعرية": "شظايا العمر المباح" 2002، "المفاز" 2002، "قريبا من القلب"2004، "من ذاكرة المكان" 2008

كما أصدر في 2013 كتابا بعنوان "أتذكر" (3) وفيه يروي لنا "السنوسي حبيب" كما يقول في مقدمته (شذرات من حياة عشتها، وعرفت فيها أحداثا، وأشخاصا، وعايشت فيها قضايا وهموما بها قدر من العام الذي لا يخصني وحدي بل أشترك فيه مع غيري ممن جايلتهم وتفاعلت معهم إيجابا وسلبا، منهم من كان صديقا ولا يزال، ومنهم من لم يعد كذلك، ومنهم من كان خصما ولايزال ومنهم من لم يعد كذلك)(4)

يسرد "السنوسي" جانبا من طفولته وصباه وشبابه ودراسته الثانوية والجامعية، وتجربة السجن وتنقله بين المدن من هون إلى "بنغازي" و"سبها" و"مصراتة" و"طرابلس"، إضافة إلى رحلته مع المرض في سنواته الأخيرة، وسفره إلى "باريس" وذكرياته هناك، كما يتطرق إلى تجربته في تأسيس "ذاكرة المدينة" في "هون" التي تجلت أهم أعمالها في إعادة ترميم المدينة القديمة وما صاحبها من تجاذبات مع أهلها ومتساكنيها والطامعين فيها والمهيمنين عليها من سلطات محلية. كانت معركة شرسة استمرت قرابة 6 سنوات تكللت بإعادة الروح إليها كرمز للحفاظ على التراث والتواصل مع التاريخ والمكان ولتصبح منبرا ثقافيا ومعلما حضاريا، واستكملت جهوده بتأسيس "مهرجان الخريف السياحي الدولي" .

"بنغازي" أوائل السبعينيات

من أجمل فصول كتاب " أتذكر" تلك الصفحات التي خصصها الكاتب لمدينة "بنغازي" في أوائل السبعينيات، وفيها يكشف لنا عن أنه كان قد جاء مع أسرته في سنوات طفولته الأولى إلى "بنغازي"، حيث شاءت ظروف العيش الصعبة أن تقتلع أسرته من جذورها القروية وتلقي بها في "بنغازي" التي كانت في تلك الفترة موطن جذب لفقراء ليبيا الباحثين عن فرصة عمل وعيش، يقول الكاتب وهو يتذكر تلك المرحلة: (كانت "بنغازي" أول مدينة تدخل ذاكرتي وأول سيارة أركبها كانت متجهة إليها، وترتب على ذلك أن تكون أول مدرسة ابتدائية أدخلها بالبركة، وبالتالي أول حرف أتعلم نطقه وتهجيه كان حرف الباء في كلمة بطة بكتاب المطالعة للسنة الأولى ابتدائي حسب المناهج المصرية حيث كنا نردد خلف المعلم با بي بو بطة، والباء هذه هي الحرف الذي تختتم به كلمة حب وتفتتح كلمة بوح، وبين الحب والبوح أحمل ذكرياتي لهذه المدينة التي احتوت خمسينياتها على أخلاط الليبيين من مختلف بلدانهم وقراهم ونجوعهم، فتشكلت المدينة بمزج عاداتهم وتقاليدهم وأمزجتهم مما أعطاها نكهة خاصة لاتتوفر إلا لها، فهي حاضنة الجميع ومدينة الجميع والقرية الكبيرة للجميع)(5) .

ثم يتطرق إلى الحياة الثقافية التي كانت تنبض في المدينة السنوات الأولى من السبعينييات، حين كان الشاعر في بداية تفتحه الأدبي والثقافي قادما من مدينة صحراوية ناشئة هي "سبها" بإمكاناتها الثقافية المتواضعة مقارنة بـ"بنغازي" التي وجد بها ست مكتبات عامرة بالكتب المتنوعة والرخيصة الثمن. كما يذكر الكاتب أنه عندما التحق بكلية الآداب عام 1970 ليتخصص في اللغة العربية كان أول مالفت انتباهه تلك النقاشات والتعليقات الدائرة بين الطلبة السابقين عليه عن مقالات وآراء الكاتبين الأكثر لمعانا في تلك الفترة "الصادق النيهوم" و"خليفة الفاخري"، ومايثيرانه من قضايا اجتماعية وثقافية، حيث مثلت مقالات "النيهوم" خاصة دراساته عن الشعراء والأدباء العرب "البياتي" و"السياب" وغيرهما مدخلا تثقيفيا مغريا لشباب تلك المرحلة وحفزتهم لمزيد من البحث والقراءة لهؤلاء الشعراء.

ويضيف الكاتب أن قصر المنار الذي تنازل عنه الملك "إدريس" ليصبح مقرا للجامعة قد شهد مناقشات وحوارات في حديقة القصر كانت تجري بين الطلاب والأساتذة الذين كانوا من كبار أساتذة الفلسفة والآداب في الوطن العربي ، مثل "د. عبدالرحمن بدوي" و "د. توفيق رشدي" و"د. عادل فاخوري" و "د. مصطفى ناصف" و "د. طه الحاجري" و "د. ناصرالدين الأسد"، بكل هؤلاء الأساتذة وبما كانوا يلقونه من محاضرات ويديرونه من نقاشات، وبمدرجها الرئيسي الذي حمل اسم الشاعر "أحمد رفيق المهدوي" صارت كلية الآداب مركزا مهما للإشعاع الثقافي والأدبي، واحتضن مدرج "أحمد رفيق المهدوي" العشرات من الندوات والمؤتمرات والمهرجانات الثقافية والأمسيات الشعرية. وهناك حضر شاعرنا أصبوحة شعرية للشاعر "نزار قباني"، وأمسية شعرية للشاعر "مظفر النواب"، كما تطرق الكاتب إلى تجربة مجلة "جيل ورسالة" التي كانت تولي الشأن الثقافي أهمية خاصة وكذلك الأمر بالنسبة إلى مجلة "الثقافة العربية". إضافة إلى نادي الهلال الذي دأب منذ السبعينيات على إقامة الأمسيات الشعرية والأدبية مستقطبا الأدباء والكتاب من مختلف أنحاء ليبيا كما نشطت الحركة المسرحية عبر المسرح الوطني والعرب والحديث التي استعانت في بناء خبرتها المسرحية بالفنانين المصريين السيد راضي وعمر الحريري.

كانت "بنغازي" حديثة العهد بانقلاب "القذافي"، كما يقول السنوسي مضيفا: "ولم يكن ظاهرا عليها، بأي حال الترحيب به أو الموافقة عليه، كانت تبدو كما لو كانت مشغولة عنه بما سيؤول إليه حالها تحت حكم العسكر الذين الغوا حكما مدنيا كان الناس قد ألفوه وتعودوا عليه. وكان مثقفو المدينة وأصحاب الحس السياسي لايتوقعون خيرا من نظام عسكري شبيه بحكم عبدالناصر)(6)

ولم يمض سوى وقت قصيربعد منتصف يالسبعينيات حتى تحققت تلك التوقعات، وإذا بالنظام الاستبدادي يكشف عن وجهه البغيض، وجه العنف والبطش الذي أودى بالسنوسي ومئات من الطلاب إلى السجون والطرد من الجامعة ما انعكس سلبا على الحياة الثقافية التي تم تجريفها بعد أن تم تجريف الحياة السياسية عبر جملة من الإجراءات تمثلت في إلغاء الدستور وإلغاء الحياة النيابية ومنع الصحافة الخاصة، واعتقال أصحاب الاتجاهات السياسية، ليصل إلى سجن المثقفين والطلاب والصحفيين والنقابيين وكل من يجاهر برأي مستقل، وفتح الباب واسعا أمام المطبلين والانتهازيين، وهو ماتسبب في الكوارث التي راحت تباعا تعصف بالبلاد منذ ذلك الحين.

واليوم وفي الذكرى العاشرة لرحيله نحتفي بديوان "رومنتيكيات سجنيية" ونتذكر الشاعر والمناضل السنوسي حبيب أحد أهم شعراء جيل السبعيينيات ومن خلال قراءة تجربته الشعرية واستحضار سيرته النضالية نتمثل الدروس والعبر.

------

1-السنوسي حبيب، "رومنيكيات شعرية "، دار إمكان، طرابلس ليبيا، 2023
2-نفس المصدر ص35
3-السنوسي حبيب، "أتذكر"، هيئة دعم وتشجيع الصحافة، طرابلس ليبيا، 2013
4-نفس المصدر ص3
5-نفس المصدر ص19
6-نفس المصدر ص26