Atwasat

رمضان

سالم العوكلي الثلاثاء 28 مارس 2023, 01:17 مساء
سالم العوكلي

لا أتذكر كثيرا طقوس شهر رمضان قبل أن أصومه، وقد شرعت في الصيام مبكراً عندما كنت في السنة السادسة من المرحلة الابتدائية، حيث الرغبة الطفولية في أن ننتمي لصنف الرجال مبكراً، واستعدادا للسؤال المحرج حين يقابلنا راشد ويسأل: صايم وإلا فاطر؟ وكأنه يسأل: رجل أنت أم طفل؟ وما يعقب هذا السؤال من كشف على مدى صدق إجابتنا إن هززنا رؤوسنا بما يعني أني صائم: كذا وريني لسانك!.

وأُظهر لساني لأثبت أني صائم، ولا أعرف ماذا يرى الراشدون في اللسان في ذلك الوقت، لكن الصوم منذ بدايته كان يعبر عن حرج اجتماعي أكثر من كونه واجباً دينياً، وقد كبرنا وكبر معنا دافع الخجل الاجتماعي للصوم، ليكتسب مع الوقت أبعاده السياسية والاقتصادية التي غطت على روحانية هذا الشهر كما أريدَ له.

كانت حني (الجادة) رحمها الله، هي التي تقرر من يجب عليه بداية الصوم من أحفادها، فندخل عليها في آخر شهر شعبان، فتصنع حلقة من خيط قماشي، ومن يعبر رأسه الحلقة يعرف أنه ما زال صغيراً على الصوم وينتظر اختبار العام التالي، وطبعاً هي من تتحكم في مساحة الربطة وفقاً لمن ترى أنه وصل إلى سن الصوم فتجعل الحلقة صغيرة، وننتظر عاماً آخر لنلج عبر هذه الحلقة عالم الرجال القادرين على تحمل مشاق الجوع والعطش.

كان شهر رمضان يمر مثله مثل الشهور الأخرى باستثناء تفاصيل صغيرة، وأذكر أن كل التجهيزات الرمضانية لعائلتنا المتوسطة تتمثل في شريحة قمر الدين (المشماش المجفف) وكرة جبنة حمراء، وكيس قهوة، يحضرها أبي فندرك أن رمضان قد حل، ولأن مشروبنا المعتاد هو الشاي، فلم نكن نشرب القهوة إلا في رمضان على الإفطار، أما موعد الإفطار، فقد كان يعلن عنه أبي وفق تقديره الشخصي بإقامة أذان من فوق تلّة بوادي لالي، قبل أن يصل الراديو ومعه تترسخ ذكريات رمضانية أخرى، أهمها برنامج (حكايات البسباسي) الذي كان يصاحب وجبة الإفطار بصوت مؤلفه طاهر جديع ورفيقته في الحوار الناقد لظواهر اجتماعية، فاطمة عمر، في دور (غرسة).

لم يكن بجوارنا جامع فكنا نفطر على آذان المغرب في الراديو حسب توقيت بنغازي مع ملاحظة تقول أن على القاطنين خارج المدينة مراعاة الفروق في التوقيت، وكنا نعتبر أنفسنا من قاطني خارج المدينة التي تبعد عنا 200 كم، والدقائق التي نخسرها بتأخر إفطارنا كنا نكسبها في توقيت الإمساك.

وكأي عبادة أو شعيرة دينية، سيكتسب رمضان مع الوقت كل المظاهر التي تتحول به إلى ما يشبه المهرجان أو الكرنفال، بداية من ابتكار مدفع الإفطار في المدن الذي حل محل الآذان، وصولاً إلى ما يقام فيه من بازارت تجارية ومهرجانات اجتماعية وثقافية وسياحية، حتى أصبح الاستعداد له مكلفاً وثقيلاً على ميزانيات الأسر المتوسطة، فضلاً عن الزينة التي تُقام في الكثير من المدن، والأنشطة الثقافية المكثفة، والمسلسلات الرمضانية.

فأهم ما يقوم به شهر الصوم إنعاش الحياة الليلية حتى ساعات الفجر الأولى، ومع مغريات السهر والسمر اختفى المسحراتي الذي كان يوقظ النائمين للسحور، واختفت الساعات المنبّهة التي كانت تستخدمها أمي رحمها الله، حيث كنا كمثل باقي الأيام العادية ننام مبكراً ونستيقظ على السحور ثم ننام إلى الصبح ليبدأ يوم عملنا العادي، إن كان دراسة، أو حصاداً، أو رعياً أو غيرها من الأعمال. فلا شيء كان يتوقف في رمضان.

شعيرة الصيام قديمة بقِدم وعي الإنسان بجانبه الروحي، وحاجته إلى التطهر مما يثقل ضميره من أخطاء، وهو الشعيرة التي اتفقت عليها كل الأديان، الوثنية والموحدة، كطقس موسمي غايته التحكم بالغريزة والامتناع عن بعض العادات المحببة للإنسان فيما يشبه إعادة التأهيل الروحي والجسدي، إضافة إلى ما زخر به تاريخ الروح من غايات أخرى ارتبطت بالصيام، فكانت بعض قبائل الهنود الحمر تتبرك به قبل الاستعداد للحروب، كما يعتبر عند بعضها نوعاً من الإعلان عن بلوغ سن الرشد، كما نرى الآن في المجتمعات العلمانية أن الصيام بدأ يتناغم مع برامج الحمية المنصوح بها من أجل العافية والحفاظ على جمال الأجساد.

ومثلما أصبح الحج موسماً للاستثمار السياحي واستعراض إنجازات البنى التحتية والخدمات الرقمية، غدا شهر رمضان بازاراً ضخماً لمثل هذه المصالح الدنيوية، وعلمنة هذا الشهر التي هي جزء من عقيدته ذهبت به إلى أن يكون موسم استثمار ضخم في الروح والجسد، يقدر اقتصاده في الدول الإسلامية بمئات المليارات، وهو أمر إيجابي سيذكرنا دائماً بأن مقومات الحياة والمصالح ودوافع البهجة والمرح نوازع إنسانية تستجيب لها الأديان وليس العكس.

ففي الهندوسية والبوذية، وقبل الميلاد بآلاف السنين، ثمة أيام للصيام تسمى أيام (فيساخ) حين يكتمل القمر في شهر مايو احتفالاً بميلاد بوذا، حيث يمتزج التأمل الروحي والصوم والاحتفالات الكرنفالية، وتحظر في هذه الأيام ممارسة الجنس والكحول وأكل اللحوم، وكذا الصوم الإنجيلي المتعدد الطرق والموزع على فترات في السنة، والمتعلق بالكف عن أكل الطعام ذي المنشأ الحي، بينما يصوم اليهود في عيدهم المسمى(كيبور) 25 ساعة دفعة واحدة.

ويتخلون ابتداءً من غروب الشمس عن العمل والأكل والشراب والجماع وحتى عن تدخين السجائر، وحتى سياقة السيارة والاستحمام والتجميل وألعاب الكمبيوتر.

كما توجد صنوف أخرى من الصيام المرتبط بعبادة أو بنذر او بتكفير عن خطيئة، مثل الصيام عن الكلام أو الصيام عن العمل أو الصيام عن النظافة أو الصيام حتى الموت لمن يعانون من مرض لا علاج له (أتباع الديانة اليانية في الهند).

ومن المفارقة أن شهر رمضان أصبح يختزِل كل هذه الأنواع الغريبة من الصوم، حيث يتوقف العمل تقريباً في هذا الشهر بما فيه الدراسة، وتكثُر المخلّفات المرمية في الشوارع مع زيادة كميات النفايات، والبعض الذي ينصحه الطبيب بعدم الصيام بما يشكله من خطر على صحته وحياته لا يستجيب.

من سمات هذه الشهر في زمن الوفرة بعض المفارقات العجيبة، فقبله بأيام كانت تعلن الطوارئ في المستشفيات والعيادات، وفي مراكز الشرطة، لما ينتج عنه فيما يخص الطوارئ الصحية من مضاعفات لأصحاب الأمراض المزمنة أو الجلطات نتيجة المبالغة في أكل الدهون والسكريات، حتى إنه أصبح شهر تخمة وليس صياماً، يستهلك الفرد فيه ضعفي ما يستهلكه من السكريات والدهون والزيوت والمعجنات وغيرها، وضعفي الميزانية التي يرصدها للشهر العادي.

أما ما يتعلق بالطوارئ الأمنية، فتحدث فيه الكثير من التوترات والمشاجرات بسبب هبوط في نسب السكر في الدم في ساعات النهار، أو السهر، أو نقص في الكافيين والنيكوتين.

ما ميز هذا الشهر في العقود الأخيرة، بعد انفجار البث التلفزيوني الفضائي، في منطقتنا العربية، السيل العارم من الدراما المرتبطة به، ما يعكس تنافساً كبيراً بين القنوات الفضائية على كسب أكبر قدر من الإقبال الذي سيُقاس بالأرقام مع نهاية الشهر وفي يوم عيد فطر خاص بالدراما العربية.

فيما مضى كان رمضان يختص ببث المسلسلات الدينية (التي أغلبها رديئة) في قناة واحدة رسمية لكل دولة، ولكن مع ما جد في العالم من عولمة وعلمنة للشعائر أصبحت الدراما تذهب إلى نبش قضايا جريئة مسكوت عنها، علاقات حب وخيانات ومخدرات وفساد وقضايا اجتماعية وصراعات سياسية، وتاريخ.

أما الملاحظ في العقد الأخير، فهو بروز نوع من الدراما المميزة في معظم بلدان الربيع العربي يحس متابعها أن ما أُتيح من هامش للحرية فجّر مواهب مهمة في كل تقنيات العمل الدرامي، كما طرح مواضيع جريئة جداً تفعل فعلها داخل المكوّن الاجتماعي أو السياسي في المنطقة.

فهذه الثورات مازالت تشتغل في مناطق غير مرئية من الفنون والتعبير، سواء في الدول التي طالها الربيع أو التي تأثرت به، وكل شيء بعد هذا الربيع أصبح يختلف عما قبله، وهي نواتج غير منظورة لهذا الزلزال الذي ضرب منطقة عاشت عقوداً من الجمود، غير أننا مازلنا نركّز على التفاصيل اليومية المزعجة والإخفاقات الظاهرة إعلامياً، دون أن ننظر للصورة الشاملة لما حدث، والتي من الواضح أنها ستهيء المنطقة لتغيرات جذرية.