Atwasat

قلبي جبانة!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 28 مارس 2023, 01:13 مساء
أحمد الفيتوري

إن أعادوا لك المقاهي القديمة
من يعيد إليك الرفاق؟
مات الذين تحبهم
واللوز يزهر كل عام بانتظام...
• محمود درويش

ولد في المرج ودُفن في البيضاء، ما بينهما مئة كلم، بعد أن تُوفي في القاهرة كنت رفقة الصديق (محمد بوشويقير) عائدًا من مدينة البيضاء إلى بنغازي، بعد أن حضرت دفن الصديق والرفيق الشاعر (إدريس الطيب)، حيث بدا لي أن قلبي جبانة، حدث ذلك مبكرًا، عندما كنت الصبي فُجعت في مقتل أخي الطفل، عندما اقتحمت سيارة نقل دكان أبي، في سوق دكاكين حميد بحي الصابري، كان السائق الأهوج، دون رخصة، يصرخ: أن ليس بالسيارة فرامل.

هكذا منذ صباي أصبح القلب جبانة، هذه الأيام وفي أقل من شهر رحل الصديق (فوزي بن كاطو) الكشفي والشخصية الشعبية المميزة، صديق الصدق المرح، مَن كنا نلتقي على الرحب والسعة في مزرعة أسرته، ثلة مميزة من الأصدقاء، وكان هو ابن الحياة، صانع الحياة، من تظن أن الموت لا يعرف اليه سبيلاً. مات (فوزي بن كاطو)، وهو في عزاء الصديق (رمضان جربوع)، المثقف الليبي الشغوف بالمعرفة وشعابها، القلق بما تضمره من تناقضات وتقلبات، وكان مكتبه مزارًا للمثقفين كمشغل لحال لا مستقر له.

في هذا الحال تناقلت الأخبار موت زملاء كتاب، ربطتني بهم علاقة ثقافية مبكرة: الروائي العراقي (عبد الرحمن الربيعي)، من توفي في محل إقامته بتونس، عرفته منذ سبعينيات القرن الماضي في بغداد، حين كان سكرتير تحرير مجلة «الأقلام» العراقية الشهيرة، حيث نشر لي ملفًا أعددته يضم نتاجًا لكتاب ليبيين، وكان حينها يُعد من كتاب الرواية العربية المبرزين، وقد تتالت لقاءاتُنا بين طرابلس وتونس والقاهرة.

أما الجزائري الأستاذ الجامعي والصحفي (عبد العالي رزاقي) فقد عرفته في السيعينيات كشاعر، من خلال مجلة الكتاب الشباب الجزائرية «آمال»، ومن خلالها عرفت ثلة من كتاب الجزائر من جيل السبعينيات، وقد نشرت له في جريدة «الأسبوع الثقافي» شيئًا من شعره ومن كتابات زملائه أيضًا، ثم التقيته في الجزائر وطرابلس، وما شاهدتُه مرة عبر مداخلاته في محطات التلفزيون، إلا واعتبرته من أبناء جيلي الذين ساهموا في نقلة ثقافية مميزة في الثقافة العربية، هكذا علاقتي بهما نوعية في المسار الثقافي والإبداعي.

أما الصديق الرفيق (إدريس الطيب)، الشاعر الرحال منذ الميلاد حتى الرحيل الأخير، فأبوه الصيدلاني والفقيه صديق أبي، جارنا بحي الصابري، حتى إن إدريس وقد بُعث للدراسة بالمعهد الديني بواحة الجغبوب، كان دافع أبي للتفكير ببعثة مماثلة لي، لكن رفضي وتمردي جعله يتراجع، وقد كنت ابنه البكر.

هذا وغيره طبعًا جعل من (إدريس) مثلما توأمي، كما يبدو لي، فحدث أن سكن معي في شقتي أثناء عملي بالصحافة في طرابلس، ومن خلال هذه الشقة ذهبنا معًا إلى السجن في قضية رأي، عُرفت بقضية الصحافة عام 1978م، حيث مكثنا معًا لعقد من الزمان، وفي السجن بقينا معًا فقط في زنزانة لفترة، في حين كانت الزنازين الأخرى تعج بالسجناء، ثم في الأيام الأولي لثورة 17 فبراير 2011م سكن ببيتي لمدة أخرى.

ومن هذا كنت والراحل (ادريس المسماري) قد عشنا معه، أكثر مما عشنا مع أي أحد آخر في حياتنا، سافرنا معًا، سُجنا معًا، تعاركنا معًا، اقتسمنا المحنة معًا، والخبز والملح أيضًا، حتى تشابكت سيرتنا، فلم أفتقده مرة، رغم أنه رحال، كما لن أفتقده، فما مضى سيكون، حتى الرحيل، لأنه أنا في الأول والأخير.

شغف (إدريس الطيب) بالحياة لم تعقه عنه الإعاقة، كما لم يتح له أن يستكين، لقد ناضل أن يحيا وحسْب كما يشاء، وشاء أن يكون الصديق لصديقه كما شاء أن يحب الحياة، التي تجرعها دفقةً واحدةً ودون تردد ولا كلل، لذا يصح القول إنه عاش كما أراد، وقد كنت الشاهد من رأى وعاش ما رأى، أينما كان (إدريس) وكيفما كان، كان كما أراد حتى رحيله الأخير.

لم يأسف لحظة على شيء، كما لم يلتفت: ذات مرة حين كنا معًا، بالزنزانة في سجن الجديدة بطرابلس الغرب، مرّ رئيس الحرس في القسم، وبشكل مباغت وقف عند كوة الزنزانة، قال: إدريس أشم رائحة الشاهي، على ماذا سخنته؟ أجاب إدريس بأريحية وعلى وحى خاطره: على أعصابي، علق رئيس الحرس وهو ينسحب: لقد صدقت كعادتك.

هكذا عاش.. هكذا مات..
هكذا يعيش عند من سيعرفه كشاعر وكإنسان، وفي ذاكرة آخرين لن ينسوه حتى الرمق الأخير..