Atwasat

تأملات في كيان هش (1/4)

عمر الكدي الإثنين 27 مارس 2023, 03:09 مساء
عمر الكدي

تتميز طرابلس باتساع ريفها ومينائها الحيوي الذي تصل عبره البضائع، ومنه تصدر الحلفا والحبوب والماشية والعبيد، ومنه تخرج قوارب القراصنة لتسطو على سفن الأوروبيين. الريف الواسع من المنشية وسوق الجمعة وتاجوراء وقصر بن غشير وجنزور والسواني، وفر للمدينة كل ما تحتاجه من خضروات وفواكه وغلال، وربط بين سكان المدينة وريفها، كما جذبت طرابلس على الدوام أقليات من شعوب البحر المتوسط، وأحيانا أبعد من ذلك، فالريس مراد في زمن يوسف باشا قرصان اسكتلندي، ودرغوث باشا قرصان تركي، وكان شارع الشط حيا أوروبيا يعيش فيه الطليان والمالطيون واليونانيون وغيرهم من الأوروبيين، بالإضافة إلى الجالية اليهودية النشطة التي كانت تعيش في الحارة الكبيرة والحارة الصغيرة. لم تكن المدينة كبيرة وفقا لأسوارها القديمة، قبل أن يُبني سورها الجديد الذي لا تزال آثاره في منطقة الهاني، ولكنها كانت كافية لتنسج رداء مدينيا خالصا ممزوجا بالزوايا الصوفية والحانات الأوروبية، وسطوة القلعة وأغاني البحارة وصيحات الباعة، وحلقات الموشحات وصوت الطبل والغيطة.

تفتقر بنغازي لهذا الريف الواسع فالسهم البدوي يخترقها مباشرة من سيدي حمد المقرون إلى شارع البحر، ولهذا تجد القيم الحضارية والبدوية تعيش متجاورة في سلام. عواقير ومصراتة وورفلة وزليتن وزرائب الأفارقة، وعلى عكس طرابلس ظهرت المدينة الثانية في البلاد بهويات قبلية وجهوية واضحة، وربما تمكن وسط البلاد من إذابة هذا الخليط في شارع البحر وسوق الحشيش والصابري وسيدي حسين، فأصبح ولاء الجميع للمدينة، سواء كان أجداده من الشرق أو الغرب أو الجنوب، وربما لهذا سميت برباية الدايح، على عكس طرابلس التي لا يمكن اختراق نخبتها وظلت تنظر بتعالٍ لكل من يأتي إليها، وتمثل بنغازي ليبيا أكثر من طرابلس، ففيها تعيش ليبيا كاملة، كما أن نسبة التزاوج بين أعراقها أكثر من أي مدينة أخرى، بالإضافة إلى قدرتها على إذابة كل هذه المكونات دون عقد، فمن مرزق جاءت موسيقى المرزقاوي، وفي بنغازي تحولت إلى المرسكاوي [المرزكاوي]، وهو ما لم يحدث في طرابلس، ربما لهذا السبب كانت السخرية فيها عالية. تجلى ذلك في كتابات النيهوم الذي، بالرغم من أصوله المصراتية، لا يشبه كتاب مصراتة الأكثر محافظة، والغريب أن الأصوات التي تشكو من التهميش، وتدعو للفيدرالية وأحيانا الانفصال أصولهم غرباوية، وكأنهم غير مطمئنين لقبولهم في برقة فزايدوا حتى على السعادي والمرابطين، وجاءت فبراير لتكشف الغطاء، وربما تستوي في هذا مع مدينة درنة التي صنعت درعا في وجه البدو الذين أحاطوا بها، فظل الغرابة الذين جاءوا مع تجريدة حبيب والأندلسيون هم أصل المدينة. تميزت المدينة بلهجتها الناعمة وتقاليدها المدينية وليبرالية عابرة وبمطبخها الطرابلسي، الذي أضافت له أعشاب الجبل والوادي نكهات جديدة. أنتجت هذه المدينة الصغيرة العديد من الكتاب والشعراء والمسرحيين، وكان مثقفوها من أبرز أعضاء جمعية عمر المختار، كما ساهمت بناديين لكرة القدم هما دارنس والأفريقي وبعدة فرق مسرحية، كما سمحت ليبراليتها العابرة بمكانة مميزة للمرأة، فوصلت إلى الجامعة مبكرا وأيضا للصحافة.

​- تأملات في كيان هش (3-4)
- تأملات في كيان هش (2-4)

بقية المدن مثل مصراتة وسبها لم تتمكن من التخلص من إرثها القبلي، فيمكنك معرفة قبيلة شخص ما إذا عرفت في أي حي من المدينة يعيش، وفجاءة انهارت الأسوار واندمج الجميع منذ أن توقفت المدينة عن الانتقاء. عوائد النفط العالية دفعت الجميع تقريبا نحو المدن.

فقدت المدن خصوصيتها ويمكن أن تنزل بملابس النوم إلى ميدان الشهداء بطرابلس، وهو أمر عادي في بنغازي منذ البداية، أما في درنة فكانت النتيجة عكسية. فجاءة تحولت تلك المدينة التي شهدت ليبرالية خجولة في الستينيات، إلى أكثر المدن تطرفا دينيا وسلوكيا، ولم يسأل نظام القذافي لماذا حدث ما حدث. حاصرها وفتشها بيتا بيتا وقصف غاباتها وجبالها بالطائرات، وحتى الآن لا نعرف على وجه الدقة أسباب هذا التغير. هل هي ردة فعل من ابن المدينة ضد ما اعتبره غزوا بدويا لمدينته، مثلما حدث في الاسكندرية التي تحولت من مدينة الشاعر كفافي، إلى معقل السلفية والتشدد. المشكلة أننا لم ننتبه لهذا التغير إلا متأخرين، بعد أن وصل عدد الشباب الملتحقين بتنظيم القاعدة ثم داعش من درنة أكثر من المدن الليبية، وهو نفس السؤال الذي لا يزال يسأله التونسيون، ماذا حدث للشباب التونسي الذي تربى في ظل الدولة العلمانية؟ بعد أن أصبح عدد الشباب التونسي الملتحق بتنظيم داعش أكثر من باقي البلدان العربية، أم أن ما حدث ردة فعل على طغيان نظام القذافي؟ ففي الستينيات كانت معارضة الأنظمة الحاكمة تقود إلى التنظيمات اليسارية والقومية، أما الآن فالموضة إسلاموية متطرفة، وها هي السلفية تحتضر في موطنها بالسعودية وتنتعش في مصر وليبيا وتونس.

في منتصف التسعينيات كانت مدينة غريان المعروفة قديما باسم تغسات تخضع لعائلاتها، ولكن معسكر غريان وكتيبة سحبان والكتيبة الثامنة ومصنع الخزف، جذبت العديد من مناطق بعيدة استوطنوا المدينة، تحولوا مع الوقت إلى أغلبية. في منتصف التسعينيات طلبوا من السكان الأصليين للمدينة حصتهم في اللجنة الشعبية وفي أمانة المؤتمر، فرفض السكان الأصليون وكانت النتيجة أن سيطر الوافدون بأغلبية كبيرة على المؤتمر وكل الأمانات، وعندها تأكدت أن المدينة بطبيعتها تنحاز للديمقراطية حتى في ظل نظام استبدادي، فهل بعد هذه الرحلة المضنية نستطيع بناء مدينة أكثر صحية تليق بقيم المدينة، في التنوع والتعدد والديمقراطية، ونطرد القبيلة خارج أسوارها؟ أم أننا سنصر على بناء مدن قبلية لن تفضي إلا إلى مزيد من العنف والتشدد.