Atwasat

حكاية شارع في (سي خريبيش)..!

سالم الهنداوي الجمعة 24 مارس 2023, 01:38 مساء
سالم الهنداوي

.. بلغنا من العُمر ما يجعلنا نستمع بوضوحٍ أكثر لذاكرتنا، فكُلّما ابتعدت أحداث الماضي في حياتنا، اقتربت أكثر في ذاكرتنا.. ولعلّها كانت الأقرب إلى الصورة "الكارت" في قيمتها التاريخية وعبق رائحتها حين نفتح "الألبوم" القديم على تاريخٍ حافلٍ بالذكريات البعيدة غير الملوّنة في شكل "أبيض وأسود" لنكون معها في تلك الأيام بوضوحها الحميمي في الذاكرة، وفي بروازها المُغبر الذي يعلو الجدار العتيق للذكريا.. كبرنا مع حيطانٍ اتكأنا عليها كثيراً في شوارع ابتهجت لألعابنا القديمة وابتهجنا لألفتها وهي تؤوينا بحنان طوبها الأصفر المتهالك في الزمن كقلعة عريقة، تخاف علينا وتحمينا من كل كدرٍ وشرور، وتغمرنا ببهجة الأفراح ومناسبات الأعياد وليالي رمضان الطويلة المضيئة، وكأنها مسكن الأحلام البريئة ووسادتنا في التعب.. كما كبرنا مع وجوهٍ صاحبتنا بملامحها المألوفة وهي تجوب الشوارع وراء أرزاقها، ومن شدّة تعلُّقنا بها ظنناها تعرفنا كما يعرفنا أباؤنا، فكثيراً ما ينهرنا أحدهم عندما نتشاجر في لُعبة، أو عندما نمسك بذراعه فجأة لنحتمي به ونحن نركض.. هناك منهم من يمازحنا ويضفي على لعبتنا من بشاشته، وهناك من يعكّر صفونا بعصبيته فيلاحقنا بالشتائم حتى يجمع الجيران إلى لسانه ويديه، وهذا من النوع العصبي الفالت الذي كُنّا نسمّيه "الشهدار" مثل "سي اعميرينة" الذي كان يلحقنا بالشتائم ويقذفنا بالحجارة ونحن نتقافز أمامه راكضين كالقطط إلى بيوتنا، ثم ينتصب مزمجراً عند رأس الشارع حتى يهدأ فيجر خطاه ويعود أدراجه يغمغم..

.. في الأثناء كان هناك من الكِبار من يشاركنا اللعب مازحاً ويمضي في طريقه مبتسماً، بل وكُنّا نتعمّد تسديد الكورة باتجاهه ليتلقّفها ويراقصها بخفة لاعب محترف ثم يركلها نحونا ببراعة فنضحك ونستمر في اللعب.

.. كان "اعميرينة" مقدورا عليه، فإما نجلس على عتبات البيوت صامتين حتى يعبر بظلِّه العنيد، أو نترك له الشارع حتى يغرب، وكُل الجيران يعرفون عصبيته ويتحاشون فلتان لسانه، خاصة في شهر رمضان عندما يعود بحماره قبل المغرب.. لكن كانت مشكلتنا مع "رجعة" العيّاطة، تلك المرأة الصفراء النحيفة الطويلة ذات الرداء الأخضر والصرّة الحمراء فوق رأسها، فكانت بمجرّد أن ترانا نلعب تقف بيننا وتبدأ تصرخ بلا سبب، فنهرب من صوتها وقدحات عينيْها راكضين كالجراء مستغربين حالة جنونها الفُجائي الغريب. في باديء الأمر كان الجيران يهرعون إلى نجدتها وتوبيخنا، فيما كنا نرفع أيدينا الصغيرة قائلين: لم نفعل لها شيئاً، وعندما تكرّرت الحالة مرّتيْن أو ثلاث ورآها "سي فكرون" من دكّانته نهرها قائلاً: حرام عليك تتبلّي ع العيال، أنا رأيتك تقفين عند رؤوسهم ورفعتي يديك تصرخين بلا سبب، امشي في حالك وإلا ناديتلك البوليس، وبدل أن تصمت وتمشي في حال سبيلها، رمت صرّتها الحمراء وخلعت رداءها الأخضر وطفقت تولول عالياً حتى تجمهر رجال الشارع، وأطلت النساء برؤوسهن من أبواب البيوت لرؤية المرأة الغريبة التي تصرخ عالياً.. ولم يوقفها عن الصراخ سوى الشرطي ميلاد الذي وقف وراءها وناداها بصوت حازم "رجعة" فالتفتت إليه وصمتت فجأة، وبسرعة عجيبة التقطت صرّتها ورداءها وهي تصرخ: لا لا، وهرعت تركض كالمجنونة بساقين غير متناسقتين، وأردف الشرطي ميلاد، هذي رجعة المجنونة أيش جابها لكم..؟

.. وقفنا مع كبار الشارع والشرطي ميلاد أمام دكان "سي فكرون" وهو يحكي عن سرّ جنون رجعة، فقال أنها تسكن في حلاليق الصابري منذ زمن، وتعرّضت للصدمة جرّاء غرق ابنها أمامها عند "المنقار" منذ عشرين سنة تقريباً، ومن يومها وهي تحمل ثيابه في صرّة وتجول الشوارع بحثاً عنه، وكُلّما رأت صبياناً في عُمره تتفحّصهم وحين لا تجد ابنها من بينهم تبدأ تصرخ.. ونظر إلينا الشرطي ميلاد ونحن خائفين، وأردف: لكنّها لا تؤذِ أحداً، لكنّ صراخها وحالتها الهستيرية تخيف الأطفال..

.. مسكينة "رجعة" فقد فقدت صغيرها ولن تراه يلعب بيننا، نظرتُ بعيداً في أثرها وقد اختفت وخلتها تصرخ الآن في شارع آخر بين أطفال آخرين.. حزنتُ عليها كثيراً لدرجة أنني تمنّيتُ أن أكون ابنها حتى لا تعود للصراخ..

.. ليلتها لم أنم وأنا أتخيّل ملامح ابنها عندما كان يغرق أمامها وهي تجري على الشاطئ وحيدة وتصرخ لنجدته، ثم وهي تنهار على الرمل وقد اختفى ابنها عن عينيْها في البحر.. بكيتُ لأجلها، ورأيتها في المنام تجلس أمامي على ركبتيْها تفتح الصرّة الحمراء وتخرج منها ثياب ابنها وتقول: هذا لك، بنطلون بالجيوب، وهذا قميص اشتريته لخالد ولم يلبسه، قال أن لونه لم يعجبه، مع أنه سيكون جميلاً عليه لو ارتداه، لا يهُم، خذه أنت وارتدِه، بالتأكيد سيكون جميلاً عليك كما كان سيكون جميلاً على خالد.. وفيما كنتُ أمسك بالقميص لأرتديه بممنونية سمعتُ فجأة صوت ذلك الشرطي يناديها بحزم: "رجعة".. فصرختْ رجعة في وجهي فانتفضتُ من نومي مفزوعاً ليلتهمني الظلام في فراغ الدار.