Atwasat

طعم الزمن وحزن المحطات

جمعة بوكليب الأربعاء 22 مارس 2023, 12:18 مساء
جمعة بوكليب

التقارير الإخبارية في وسائل الإعلام، تتحدث عن رحلات في مستقبل قريب إلى الفضاء الخارجي، تخطط وتستعد لها وكالة ناسا الأميركية، لتأسيس محطات فضائية دائمة، مجهزة بمنصات للانطلاق واستكشاف كواكب بعيدة. وكلما شاهدت على شاشة تلفاز تقريراً يتناول الموضوع، تسمرت في مكاني، وتابعته بشغف، وكأني أستجيب لنداء رغبة مكبوتة في داخلي للطيران والتحليق في أجواء كون مجهول وبعيد.

قد يكون مبعث تلك الرغبة المكبوتة انبهاري بما يحققه الإنسان من تطور وتقدم في مسيرته العلمية والحضارية، وتوقي لأن أكون شاهد عيان، أو جزءاً منه، مهما كان ضئيلاً حجم المساهمة.

تُرى كيف سيكون طعم الحياة لرواد الفضاء في تلك المحطات الفضائية الدائمة، حيث النجوم والكواكب والفراغ والوحشة والغربة؟ سؤال قد يبدو غريباً، لكل من لم تكن له علاقة بالمحطات على اختلافها، وكثيراً ما يعنِّ لي لارتباط المحطات بالغربة في تجربتي الحياتية.

أتذكر أن صديقي الشاعر المرحوم محمد الفقيه صالح، كتب في النصف الأول من السبعينيات من القرن الماضي، قصيدة بدأها بهذا المفتتح: «للزمن الآن طعم المحطات». وأعترف أنني، حينذاك، استغلق عليَّ فهم أو تخيُّل تلك الصورة الشعرية. إذ لم تكن لي، آنذاك، أي تجربة مع المحطات، فما بالك بطعمها.

المحطات التي عرفتها كانت قليلة وصغيرة وغير لافتة للاهتمام، ولا تزيد عن محطات وقوف حافلات عامة، على جوانب طرق في مدينة كانت، وقتذاك، صغيرة ومدهشة. ولم أعرف أي أنواع محطات أخرى. بل إن محطات الحافلات تلك، انقطعت معرفتي بها، بعد أن اختفت الحافلات فجأة من شوارع وطرق المدينة، وكأنها لم تكن. وبغيابها خلت طرابلس من محطات الحافلات، ولم يبق بها سوى محطة سيارات الأجرة بمنطقة الباب الجديد.

ومحطة القطارات الوحيدة التي كنت أعرفها، كانت وراء المجمع الرياضي، وتسمى السكة، وهي من بقايا الاستعمار الإيطالي.

وحين عرفتها كانت خرابة مهجورة، ولم تكن تأتيها أو تغادرها قطارات. بل يأتيها أولاد، من كل المناطق القريبة، للعب الكرة في ساحتها الأمامية المعبدة.

بمدينة القاهرة لمدة أربع سنوات. والقاهرة مدينة كبيرة وشديدة الازدحام، وبها محطات للقطارات والترام والحافلات والتاكسيات. ولا بد أن محمداً عرف تلك المحطات، وتذوق طعم الانتظار على أرصفتها. وكان عليَّ الانتظار، لسنوات طويلة، قبل أن يأتيني الزمن بما حمل.

في الغربة عرفت المحطات بأشكالها وأنواعها وعرفتني. وصار لي معها حكايات في البر الإنجليزي. وتورطت مع بعضها في خصومات. ووقعت في حب قليل منها، وكرهت بعضاً آخر. وصرت كلما ساقتني قدماي نحو محطة قطارات، لم أجربها من قبل، أحرّك لساني في فمي، وبين شفتيَّ، كمن يحاول التعرف على مذاق شراب لم يتذوقه من قبل، لكي تتمكن ذاكرتي من أرشفة الطعم، وتصنيفه ضمن أرشيفها، الذي جمعته طيلة ثلاثة عقود وأزيد. وهذا يعني أن المحطات عموماً، ومحطات القطارات على وجه الخصوص، ليست بمذاق واحد، بل بعدة مذاقات.

بعضها بمذاق جرعة من كأس حليب بارد في صباح صيفي، وأخرى بمذاق حامض أو علقمي. الاختلاف بينها لديَّ، لم يكن في الحجم أو المكان، بل في العلاقة التي من الممكن أن تنشأ بيننا منذ أول نظرة، واستجابة قلبي لطعم الإحساس الأوّلي بوجودي تحت أسقفها العالية.

وبالتأكيد، فإن طعم الزمن في كل محطة يختلف عن الأخرى، باختلاف التجربة الشخصية في كل منها. في محطة قطارات لندن- فيكتوريا التي أعرفها، وتجمعني بها علاقة حميمة، يختلف بالضرورة عن طعم الزمن في محطة قطارات فيكتوريا - مانشستر، التي زرتها مرات عديدة، ولم تلفت انتباهي إطلاقاً.

المشترك الذي يجمع بين كل محطات القطارات – استناداً إلى الكاتب الجزائري مالك حداد، في روايته الرائعة «سأهبكِ غزالة» – هو أنها، على اختلافها، مصابة بحالة حزن دائم، كونها لا تستطيع السفر. وهذا ربما يعني ضمنياً أن ما قصده محمد الفقيه صالح في المفتتح أعلاه، هو أن الحزن طعم الزمن.

الغريب، أن الزمن كان دوماً بلا طعم، في محطة قطارات وريستر بارك، بجنوب غرب لندن. حيث أقيم منذ سنوات طويلة، وأحرص ليلياً، وبدأب، على كتابة رسائل حزينة، تنبض شوقاً وحنيناً، إلى صبي غِر، عرفته ذات عمر، وكبرت فجأة، وسافرت، وتركته ينتظرني وحيداً في طرابلس، وكأنه في محطة قطارات، في مدينة ليس بها قطارات. وظل رغم تقادم الأعوام، واقفاً حيث تركته، يرصد البشر من حوله، وهم يغصون بما يجرعهم الوقت من طعم مراراته.

وما زال، يالسذاجته، يأمل في عودتي إلى مدينة أضحت لا مبالية، ولا تنتظر أحداً، وليس بها محطة قطارات، قد تغوي قطارغربتي، ذات يوم، بالتوجه نحوها.