Atwasat

أحنُّ إلى شربة أمي

محمد قصيبات الثلاثاء 21 مارس 2023, 01:37 مساء
محمد قصيبات

يكتبُ محمود درويش في سجنِهِ قصيدةً يقول فيها: «أحنّ إلى خبز أمي.. وقهوة أمي.. ولمسة أمي»... ويكتب الفرنسي مارسيل بروست في بداية (البحث عن الزمن الضائع) عن قطعةِ المادلين التي كانت تعطيه إياها عمته عندما يزورها في طفولته وكيف أن قطعة المادلين تلك كانت تُشعل ذاكرته وتمنحه بعضَ السعادة في وحشته…

تُرى هل ما يقول درويش وبروست مجرد صور أدبيةٍ أم أنه كلام يعتمد على أُسسٍ علمية؟

الإجابة نعم، بل تذهبُ الإجابةُ إلى أبعد من ذلك، فالحنينُ، كما وجد العلماءُ، لا يبعث الدفءَ في الروح وحسب بل في الجسدِ أيضاً؛ لا داعي للدخول في التفاصيل، نكتفي بالقول إنّ العلمَ يصنف أنواعاً عدة من الذاكرة، منها المتعلق بحاسةِ التذوق وحاسة السمع وغيرها من الحواس، فعندما نتذوق الطعام ترسل المستقبلات التي على اللسان إشارات إلى «فرس البحر» الذي بالدماغ (وهو المسؤول عن الذاكرة السريعة)، الذي يرسل بدوره المعلومات بعد تصنيفها إلى جزء آخر من الدماغ به مركز للحنين في منطقة لها علاقة باللذة.

وللطفولةِ دورٌ مهمٌّ في تصنيفِ تلك المعلومات حيث إنه (فيما يتعلق برمضان) يتم تخزين ما تعلمتْ حواسُنا قرب أمهاتنا في سنواتنا الأولى مع الشهر الكريم؛ فالتفكير في شُربةِ رمضان مثلاً أو في صوتٍ أو صورةٍ معينةٍ سوف يولِد عندنا شعورًا بالحنين وهو شعورٌ غريبٌ لا علاقة له بالحزن على سنوات الماضي الضائعة، بل يولّد شعورًا بالراحةِ والهدوء حيث كما قلنا يتوهج خيطُ الذكريات في مركز اللذة في الدماغ.
لقد ارتبط شهر رمضان عندي بـ«شربة» أميّ وأيضًا بـ«البطاطا المبطنة» التي كانت تُتقن إعدادها وكذلك بصوتِ أبي قارئ القرآن في صلاة التراويح بمسجد «عبد الصمد» بمنطقة الصابري.

في الثمانينيات من القرن الماضي لم يكن السفرُ إلى بنغازي أمرًا هيّناً، لكنّ شيئا كان يجذبني إلى هناك في مواسم رمضان دون غيرها من الأوقات، ولم يكن السفر من أجل الراحة أو استعادة الذكريات واللقاء بالأحباب وحسب، بل كان أكثر من ذلك إذ إنّ لرمضان في مدن طفولتنا أجواء مختلفة، ففي كل زيارة كانت لي طقوسٌ منها التجول في شوارع المدينةِ ساعات العشية من الفندق البلدي حتى ميدان سوق الحوت، وكنتُ كلما مررتُ بشارع «بوغولة» أتوقف عند أحد أقاربي التجار بذلك الشارع التجاري، كان قريبي رحمه الله يقول لي كلما زرته: «توا قاطع آلاف الأميال من أجل الشربة!!» نعم كان قريبي على حق، إذ إن الشربة الليبية كانت واحدة من أسباب عودتي إلى الوطن في شهر رمضان بالرغم من سنوات السفر الصعبة تلك.

يغيب الوالدان ويقلّ السفر فيعيش المرءُ أشهر رمضان في بلدان غربية، تحاول عبثاً أن تجد تلك الأجواء التي عرفتها في الطفولة، وتتناولُ أنواعًا أخرى من الشربة وتكتشف أكلاتٍ مختلفةٍ مثل «البغرير الجزائري» و«الباستيلا المغربية» و«المقروض التونسي» فتشعر ببعض الراحة والمواساة، لكن برغمها يظلّ فيك صوتٌ يوقظك بين الحين والحين يقول: «إني أحنّ إلى شربة أمي».

أعرفُ أني حين أعود إلى حبيبتي بنغازي لن أجد شربة أمي، ولكن لأنّي لا أعرف كم لبثتُ في كهفِ غُربتي سوف أسأل عما فعلوا بأماكن طفولتي.. سـوف أسألُ عن الفندقِ البلدي وعن سينما الاستقلال، وبالطبع عن سينما برنيتشي حيث شاهدتُ أجمل الأفلام: «ابنة رايان»

لماذا برنيتشي؟
أظنكم فهمتم ما أريد.