Atwasat

ديستوبيا مقار!

أحمد الفيتوري الثلاثاء 07 مارس 2023, 01:42 مساء
أحمد الفيتوري

المجموعة القصصية "طرف من خبر الأيام" لجمال زكي مقار، تُثير عند القارئ مسائل تخص البنية السردية، فغلافها فصيح في أنها مجموعة قصصية، لكن متنها لا يؤكد هكذا فصاحة. حيث المجموعة تبدو متتالية قصصية، التوالد السردي فيها يتم من قصة إلى قصة، والنسق الدلالي الرابط الرئيس بين هذه المتواليات الحكائية، ما أسهم في إغناء إمكاناتها السردية، وساهم في توجيه مساراتها الحكائية، وفق ما تقتضيه تحولات النص الدلالية. ومن هذا هناك اطّراد وترابط بين الحكاية الإطارية والحكايات الصغرى، أي أن البنية السردية الكُبرى تحوي البنيات السردية الصُغرى.

ويروم هذا اعتبار البنية السردية بنية روائية، تنشق لعالمين أحدهما ينبثق من الآخر، فالأول يبدو خيالًا علميًا يخص المستقبل فيما الثاني ارتدادا عنه، أو بالأحرى ناتجه، وفي الكتاب ثمة استراتجية سردية لعدم الفصل، باستثناء ورود جملة في صفحة فاصلة، للمؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي: "تبدأ الحضارة بمعانٍ روحية سامية، وتنتهي إلى مبانٍ فارغةٍ سامقةٍ". وبالإضافة لذلك هناك قصة بعنوان "العملاق" تبدو خارج السياق، وتتلوها ملاحظة لتقديم آخر قصتين في الكتاب: "بعد آلاف سنين أخرى، خطت الكائنات خطوة كبيرة إلى الخلف".

وفي المتوالية القصصية الأولى: "أهذه لعبة؟"، ثمة لعبة سردية لا زمكانية، ما يحكم مجمل المتواليات القصصية، لكنْ ثمة مؤشر إلى أن زمن المتواليات الأخيرة: "بعد الحرب الكونية التي أفنت معظم البشر"، كما تشير قصة "طرف من خبر الأيام"، فيما المتواليات الأولى تؤمي بزمن تهيمن فيه الريبوتات على البشر، وفي الحالين يبدو البشر كائن شبه منقرض.

والشخصيات في كل المتواليات نمطية، من حيث أن لا فروق بينة بينها، فالريبوتات كما القرود تستعير لغة وأسلوب حياة البشر، ومن هذا فإن اللغة في النص ذات مستوى أحادي تقريري مثل: "كان الميني باص يمضي بسرعة فائقة، حين صرخت قردة عجوز ضخمة الجثة، تجلس في المقعد الخلفي: خفض السرعة قليلا من فضلك، معي بيض سلاحف كثير، يجب أن أوصله سليمًا إلى السوق.

لكن الشمبانزي الجالس إلى مقود السيارة، لم يعرها انتباها، فعادت تصرخ: حرام عليك، أنت لا تعلم كيف وكم أضنيت نفسي، في جمع هذا البيض، لأبيعه في السوق ومن ثمنه أسد رمق أحفادي اليتامى المساكين. ضحك القرد بصوتٍ أجشٍ، ثم داس على مكابح السيارة وخفض السرعة، اهتز جسد القردة العجوز وصاحت: أوه، كدت تكسر بعض البيضات".

اللغة لباس السردية ما يشف عن الخطاب السردي، ويكشف من ناحية عن السياق السردي وفي الحالين ثمة بنية كلاسيكية، حيث في كل متوالية على حدة بداية ووسط وخاتمة، والخيط الرفيع الدلالي هو الرابط بين المتواليات القصصية، ما يشي أيضاً ببداية ما يمكن تأويلها بعصر الريبوتات، ووسط عصر القرود وخاتمة عودة البشر. وفي كل هذا الشخصيات لا تتمايز إلا بكونها، ميكا أو بشر أو قرود، وإن كان ثمة أسماء لكل شخصية، فالسلوك واحد والأحداث مشتركة، ما يجعلها شخصيات بشرية تلبس لبوس الحيوان أو الريبوت.

الخطاب السردي في "طرف من خبر الأيام"، محمل بدلالة سقوط الحضارة البشرية، حيث المتواليات محمولها سيطرة الريبوتات على الحياة البشرية، وفي النص تدعى"الميكا"، فيما في متواليات ثانية، مثل قصة "طرف من خبر الأيام"، التي تحمل المجموعة اسمها، محمولها سيطرة القرود على الحضارة والبشر.

وأمّا حسن الختام فعود على بدء، فالبشر يتلمسون ملامح الحضارة الأولى كاكتشاف النار وتعلم الكتابة. وفي أغلب المتتاليات القصصية، الخطاب السردي يأتي في صيغ مباشرة، تدين الجنس البشري ومفاعيله وأهمها القمع والحيف، فالسلطة مجردة وقوية ومتعالية، والبشر محكومون بقوة قاهرة وبروح استسلامية، أما الحضارة فخللها بنيوي ومسارها حتمي إلى الهاوية، هذا هو ما يخبر به "طرف من خبر الأيام"، وكنموذج على ذلك ننوه بالخطاب الذي ألقاه دكتور جنج في الصفحتين 127 و128، من الطبعة الأولى الصادرة في سنة 2023م عن دار العين للنشر، فتجثم على النص في مجمله روح خربة مدمرة.

إن تحولات نص "طرف من خبر الأيام"، الدلالية تومئ بعوالم الديستوبيا، ما يذكّر مثلا برواية "آلة الزمن" التي تعتبر من أولى روايات ديستوبيا، ما عكست صورة شديدة القتامة عن المستقبل، "فتسلط الرواية الضوء على مستقبل البشرية المظلم، نظراً لاتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، حيث سيظهر جنسان من البشر هما (الإيلوي) و(المورلوك).

وهما مجتمعان ينحدران من أصل بشري واحد، بيْد أنهما مختلفان تمام الاختلاف، وإن جمعت بينهما رابطة غريبة. فالإيلوي جنس متحضر نسبياً، يعيش عيشة آمنة ينعم بثمار الأرض وخيراتها، بينما يعيش المورلوك تحت سطح الأرض، في شقاء من دون أن يبصروا نور الشمس، ويعيش مجتمع المورلوك على افتراس مجتمع الإيلوي".

عندما كتب هـ . ج . ويلز في عام 1895م روايته، فيما عرف بعد بالخيال العلمي، "آلة الزمن"، عرض على قرائه افتراضًا جديدًا مثيرًا وآسرًا، أن الزمان ليس أكثر من بُعد رابع للمكان، وما أراد ويلز أن يوحي به، هو أن السفر في الزمان ملكة عقلية نمتلكها فعلا، ولكن في نطاق ضيق، ويعلق كولن ويلسون "ومن ثم فأياً كان ما نعرفه أو ما لا نعرفه عن الزمان، فهناك شيء واحد يبدو مؤكدا هو أن الفهم المتزايد لقوانا الكامنة، يجلب مزيدًا من الاستبصار في طبيعة الزمان، وسوف نكتشف أن آلة الزمان التي تخيّلها ويلز، هي العقل البشري نفسه".

وأن يعيش المرء يومًا لم يقع بعد، وهذا على ما أظن، هو ما يمكن أن يوصف بأنه سفر في الزمان، بهذا المعنى يوسف القويري يكتب عام 1965م مفكرته لعام 2565م. ويكون "من مفكرة رجل لم يولد "أول استخدام في الأدب الليبي، للخيال والحدس لأجل استشراف واستكناه المستقبل، من خلال معطى العلم، فالنص/الرواية تستدعي الخيال العلمي لموضوعها، لأن الأفق الإنساني في الخطاب السردي مسباره العلم المحض.

وقد جعلت البنية السردية من المفكرة أداة السرد، فالمفكرة شكل من أشكال المذكرات أو التقارير العلمية، لتأكيد ذلك المفكرة تحتوي يوميات بين 7 أكتوبر 2565 ميلادية و17 أغسطس 2567 ميلادية، وتحتوي على مذكرات 73 يوما تقريبا. وكذلك يمكن ملاحظة أن لغة التقرير هي لغة هذا النص.

فيما الحدث الرئيس يرتكز على حوار بين زوج وزوجته، في بيت من بيوتات المستقبل التي لا تزخر فحسب بمقدرات علمية تكفل الراحة، ولكن أيضاً مشحونة بعواطف مزهرة وعقل متفتح، عينه على الماضي بحس نقدي عالي النبرة، وحتى استعلائي.

هكذا الإطار السردي في سردية الخيال العلمي، محموله الدلالي الخطاب العلمي أو الحكاية العلمية بمعنى ما، كما الحكاية الخرافية معنية بالخرافة. وبالتالي فإن الخيال العلمي يمكن أن يكون يوتوبيا التي عيارها "أدب المدينة الفاضلة أو الطُوبَاوِيّة أو المِثَالِيّة، وهي ضرب من التأليف أو الفلسفات، التي يتخيل فيها الكاتب الحياة في مجتمع مثالي لا وجود له، مجتمع يزخر بأسباب الراحة والسعادة لكل بني البشر".

ويمكن أن يكون ديستوبيا "أدب المدينة الفاسدة أو عالم الواقع المرير، هو مجتمع خيالي، فاسد أو مخيف أو غير مرغوب فيه بطريقة ما. ومعنى الديستوبيا باللغة اليونانية المكان الخبيث، وهي عكس المكان الفاضل يوتوبيا".

نخلص إلى أن الإطار السردي لـ"طرف من خبر الأيام" ديستوبيا، بكل دلالات هذا الاصطلاح، ومقابله اليوتوبيا كما نموذجها "من مفكرة رجل لم يولد"، حيث وِجهة الكتابين المستقبل، لكنهما على طرفي نقيض، لكن هذا التناقض في تقديري، ما يؤكد أنهما وجهان لعملة واحدة، التي هي مسبار لقراءة الواقع قراءة نقدية.

من خلال نسق سردي، تمثل في المتواليات القصصية أو اليوميات. و"طرف من خبر الأيام" لجمال زكي مقار، آلة السرد لسبر أغوار الزمان، ما ليس أكثر من بعد رابع للمكان، المكان المبني للمجهول، الذي هو في المحصلة الأرض التي يعبث البشر بها، ومن هذا يعبثون بمصيرهم الذي مآله الزوال، كما جاء في آخر جمل "طرف من خبر الأيام": "هكذا لم تتعلم القردة القراءة والكتابة أبدًا أبدًا، وأضاعت بحماقتها، فرصة عظيمة لتلحق بالحضارة. بينما خطا الإنسان خطوة واحدة جبارة، في طريقه إلى مرحلة أخرى من الهمجية".