Atwasat

الوعي الشريد

رافد علي الخميس 02 مارس 2023, 02:26 مساء
رافد علي

مهما يكن للتاريخ الإسلامي من خصوصية، فإنه لا يشذ عن القوانين العامة للتطور التي لن ندركها إلا من خلال وحدة الأزمنة؛ فمشاكل الحاضر تدفعنا للماضي وللتاريخ. لكن هذا الأخير لا يمكنه أن يمدنا بحلول إلا من خلال أشكلته للراهن فنرتد مجبرين للحظة المعاشة. فالتاريخ ليس خطا مستقيما تعيشه الأمم. للتاريخ طفرات أو نهضات تتجدد فيها روح الأمم بدلا من الاستمرار برتابة أو انغلاق على الذات.

فالصراع بين البداوة والحضارة لا يزال بارزا بمنظومتنا الفكرية مستندا على الطرح الخلدوني الذي يركز على أن حالة السقوط التاريخي لدينا بالانتقال من التقشف إلى الترف عملية عقيمة وبلا جذور بناءة. لذا يطرح الفكر العربي المعاصر المناهض للتشاؤمية الخلدونية في أجوبتها التاريخية فكرة «الثورة» كطفرة للعبور وللازدهار الفعلي المبني على قيم العلم. الثورة هنا ليست ثورة تستهدف السلطة بالمرتبة الأولى والحفاظ على جاهها؛ بل ثورة في طريقة التفكير وأساليب التعاطي مع التاريخ والحاضر وامتلاك القدرة على الاشتباك المعرفي مع روح العصر بعقلية ناضجة وواعية، لا مجرد الخوض فقط في مظاهره السطحية بالترقيع أو بالتوافقية التي قد تكون شِراكا لظاهر مخادع يلتف على معاني التوفيق ويغرقنا بالتالي في محنة «الوعي المزيف» أو ربما معضلة «اغتيال الوعي».

اغتيال الوعي يجري من خلال حشد مصطلحات معينة بهدف الهبوط بالوعي العام من مركز التمسك بالثوابت إلى حفرة التنازل والتخلي، كما هي فكرة المواطنة، على سبيل المثال، المطروحة عربياً الآن، ونشهدها بارزة في الخطاب الليبي في الأوساط الخاصة والعامة متراوحة بين مرحب بها أو معارض لها بأننا شعب لا تنفع معه إلا العصا.

المواطنة، كمصطلح، بالغرب جاءت نتاج سلسلة طويلة من المثابرة والسجال التناظري بين القاعدة المثقفة وقمة السلطة لأجل صون حقوق الناس تشريعيا واحترامها من قبل الحاكم أو الأجهزة التنفيذية كما هو مشاع اليوم، ولم تأت المواطنة وليدة صياغة قانونية فى دساتير ونصوص تشريعية مقتبسة من أخرى، أو كانت مستوحاة من أفكار وأطروحات مدرسية رائجة فكريا بدولة أخرى كما نفعل نحن الآن.

المواطن ومواطنته، بحسب حلاق، في نهايتها تاريخيا حالة انعكاس للدولة الحديثة بالغرب - (الدولة المستحيلة) - لأنها متطابقة توجهاً مع ذات القيم والمفاهيم، لأنهما شريكان في رحلة صُنعها وإقرارها مرورا، أحيانا، بمرحلة الخصومة في اعتبارها جزءا من النظام السائد كثقافة قبل أن تتضمنها التشريعات واللوائح.

أزمتنا الحقيقية أن خطاباتنا الليبية السائدة تكرس حالة الوعي المزيف أو الشريد في خضم تعاطينا مع أزمتنا في ليبيا، بشكل خاص، فالإطار المفاهيمي المستخدم في تعاطيه مع تجربتنا الراهنة بكل مرارتها وبؤسها، لا يكاد يقتنص الحقيقة بشكل جذري، ولكنه خطاب يخون التجربة ذاتها، من خلال التهافت نحو مفاهيم نقتطفها قطفا، ولا نزرعها في منظومتنا المأزومة في ثابتها ومتحركها بحسب جدليات أدونيس ومحمود أمين العالم على الأقل.

فالمحنة التي نعيشها في بلادنا لا تتمثل في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة، الموصومة بالتخلف والترهل والتبعية والفساد والانقسام والتلاشي، إنما تتمثل في التوجهات الضبابية في طرحها، وهي تكاد تكون متغافلة عن حقيقة مساعينا في معالجة الراهن، إذ تظل في أساسها تكريسا لواقعنا المعتل والعليل بكل شوائبه من لحظة الانحطاط الإسلامي مرورا بنقطة الصدمة الحضارية أمام المستعمر، ووصولا لما بعد الربيعيات اليوم، إذ تبين مدى فداحة العطب العربي عموما تنظيميا وقيميا، وأفصح عن مدى هشاشة أسس نظامنا الجمعي المزعوم لعقود، إذ بات ليس ثمة أية غرابة في حقيقة أمرنا بأن ظاهرة العنف والعنف المضاد، ظاهرة تسود وتتجلى على الدوام بمنطقتنا بسبب حالة الاحتقان السياسي، وعزوف نخبة حقيقية تمارس حيويتها كطليعة لمجتمعها الغائب والمغيب، هذا العنف الذي رجحه منذ سنوات عديدة ماضية شفيق العبرا، للتصاعد والازدياد، ما لم يسد وعي حقيقي بمدى التفريط بإمكاناتنا المادية والمعنوية عربيا لخلق وعي حقيقي ينتشلنا من متاهات الحلقة المفرغة المعاشة عربيا، وبلا مبالاة بالعنف المركب الطاغي على أحوالنا العامة، وفي أطوارنا التاريخية بشكل خاص.

لعل أجدى البدايات لتقويض الوعي المزيف بيننا، كذوات عربية مهزومة داخلياً أولاً، ومستعمرة بحقدها وعنادها وتبعيتها كليبيين ثانياً هو أن نقوض الأنا المتحزبة لنفسها ولجهتها، وإدراك أن نهج الإقصاء والاستبعاد قد أضحى لحظة تاريخية عقيمة، وعلينا ضرورة استيعاب أن فتح مكاشفة مع ذاتنا العربية والمسلمة بات ملحا جداً لمباشرة تدشين المصارحة مع شخصيتنا الليبية المرتبكة وجدانياً، على الأقل، حول مفهوم وطن أو بيت للجميع، وبالتالي مواطنة وديمقراطية. لعلّ وعياً كهذا حينما يولد فلن تكون بلادنا موضوعاً مطروحاً على طاولة مستديرة يتناقشه الأغراب، وأبناؤها في حالة غياب واستبعاد، ويخرج على الناس، ذات برهة ترحيب حكومي دبلوماسي لهكذا اجتماع «استكرادي»،وكأن رب الأمر فينا قد وضِعت أمامه كل المخرجات المتفق عليها لأزمة بلد هو ونظراؤه فيها جزء من تعقيدها وجمودها وكل الخسائر فيها بتفريط تاريخي بيّن.