Atwasat

ما أجمله من فبراير!

سالم العوكلي الثلاثاء 28 فبراير 2023, 10:46 صباحا
سالم العوكلي

تأخرت هذا العام في الكتابة عن ذكرى 17 فبراير، أحد أجمل أيام ليبيا القليلة، بالنسبة لي وربما لمن كانوا يفضلون مادة الديناميكا على مادة الاستاتيكا، ويكمن جماله في إستاطيقا التمرد الإنساني على الطغيان، وانفجار تلك الألوان في ميادين وشوارع ليبيا تطالب بالحرية والكرامة الإنسانية، وبغض النظر عن مآلات التمرد والتوق والأحلام المشروعة، فإنها لا تُنقص من جمال تلك اللحظة، ولا من سطوعها في التاريخ كبارق ضوء طعن العتمة المطبقة. أهمية الأحداث لا يمكن معرفتها إلا حين الابتعاد عنها زمنيا، وإن لم يكن هذا متاحا في أعمارنا القصيرة يمكن أن نستعيض عنها بالابتعاد عنها عاطفيا ووضعها في سياق تاريخ قرأناه بحياد ما أمكننا ذلك، لأن التاريح طويل النفس ولا يقاس بأعمارنا.

في هدوء تام، وعلى ضوء الشموع، احتفلتُ وصديقي الصحفي والفوتوغرافر، محمد امنينة، في مقر مؤسسته "تاسيلي للفنون البصرية"، وكان الحديث منصبا على ذكريات فبراير الأولى باعتباره كان وقتها محتجزا في طرابلس، ومشاركا في الانتفاضات الأولى، ثم مراسلا لوكالة رويترز، وكنت أنا في درنة بعيداً عن وكر الأفاعي، حيث التمرد ممكن بأقل الخسائر، وحيث المركزية في مثل هكذا حالة لا تخلو من لطافة.

منذ صباي، كنت أحب شهر فبراير ولا أعرف السبب، ربما لأن عطلة نصف السنة كانت في فبراير، أو لأنه شهر نهاية ما نسميه الليالي الكالحة وبردها القارس، وازداد حبي له حين عرفت فيما بعد أن عيد الحب في 14 فبراير، واليوم العالمي لرفض ختان الإناث في 6 فبراير، واليوم العالمي للعدالة الاجتماعية في 20 فبراير، واليوم العالمي للغة الأم في 21 فبراير، ومهرجان الألوان في اليوم المتمم لفبراير. وحين قرر، شُبان ليبيون رقميون تحديد يوم 17 فبراير موعداً لانطلاق الانتفاضة الليبية بعد ثورتي تونس ومصر، تفاءلتُ بهذا الموعد في الشهر الذي أحب. من جانب آخر كرهتُ شهر أبريل، وليس بيني وبينه أي عداوة سابقة، إلا حين أصبح السابع منه يوما مقيتا في التقويم الليبي، تدلت فيه المشانق في حرمات الجامعات، وضُرب فيه الأساتذة والطلاب، حتى غدا أزيز مفردة أبريل في أذني يشبه صوت نحيب خشب المشانق تحت ثقل المشنوقين، وارتبط لدي بالرعب حين أصبح جزءا من هتافات فاشية دموية مازال وقعها يرعبني إلى الآن، وحتى حين غير القذافي اسم شهر أبريل إلى شهر "الطير"، أصر عتاولة اللجان الثورية على أن يحتفظ اليوم السابع باسمه القديم (السابع من أبريل) لأنهم لا يريدون خسارة ما شُحن به هذا الاسم من رعب وإرهاب على مدى السنوات.

عادة يوم 17 فبراير تصلني نكت أو مقاطع تسخر من ثورة فبراير، وغالبا ما تكون نوعاً من الشماتة من أشخاص كانوا مقربين من النظام، يُهرّبون نزعة التشفي في الضحك، وعموما هذه هي الحياة التي يستأنس بها التاريخ في سرده المازج بحذاقة بين الواقع والخيال والفكاهة.

بفضل الله، في الذكرى هذه، لم تصلني سوى حالة شماتة واحدة عبر نكتة خفيفة الظل ومتداولة بين من يضحكون بتشفٍ ومن يضحكون بألم. تقول النكتة : "اليوم عالصبح قابلني جاري وقالي اليوم عطلة. قلتله ليش؟ قالي هذا عيبكم ... اديروا الفالطة وتنسوها". ولا أنكر أني ضحكت، والضحك أنواع كثيرة لا مجال لذكرها. ولأن من بعثها لي صديق جميل وأحبه، أجبت عليه بهذه الرسالة حرفياً: "ما أجملها من فالطا . تعرف يا (.....) أنا ما صرت بني آدم إلا بعد فبراير. بنيت حوشي وكنت قبلها نسكن في خرابة، وبديت نكتب بحرية مش خايف من شيء، والجميل أن الكتابة وفرت لي دخلا أخرج أسرتي من الحاجة والديون. أكتب بحرية وهذه الكتابة لها مردود. هذا لم يحصل إلا بعد فبراير. تعرف لما كنت نجي لطرابلس زمان والله ما في جيبي قرش وكنت أُذل في ردهات هيأة الصحافة من أجل أن أحصل على 200 دينار مقابل كتابات شهرين كاملين، وبعد مشاوير وإذلال أحصل على جزء بخس منها. والآن مكافأة ما أنشره تدخل حسابي تلقائيا دون إذلال كما كانت تفعل معنا هيأة الصحافة. طبيعي، المستفيدون من النظام الساقط أن يعتبروا نهايته كارثة أو فالطا لكن أنا على الأقل، وأشباهي ممن كانوا لا يملكون قوت يومهم، لم أخرج إلى الحياة وعلى وجه الأرض إلا بعد نهاية هذا الكابوس.

وشكرأً لأني كنت حائراً ماذا أكتب في المقالة القادمة وألهمتَني أن أكتب عن حالي قبل فبراير وبعده، وطبعا حال ملايين الليبيين غير المحظوظين بالقرب من (حفلة التيس). وعن ذاك الإذلال الذي كنا نتعرض له كي نحصل على 200 دينار مقابل مقالاتنا المراقبة جدا والتي بعضها يمنع من النشر، وعما نتلقاه الآن من احترام من قبل الصحف والمواقع التي نكتب فيها بحرية كاملة. كل المحبة أخي (....)". نهاية الرسالة.

ورغم أن النكت لا تستلزم إلا الضحك لأن هذه هي الغاية منها، إلا أنها حين تأتي في سياق شماتة أو تشفٍ تحتاج إلى توقف، أو كما نتناقل طرفة عن أخواننا الجزائريين الجادين الذين حين تقول لأحدهم نكتة يتأمل فيها دون ان يضحك ثم يقول "حكمة بليغة".

فالطا في الإسبانية (فالتا)، استبدلنا تاءها بطاء مثلما نفعل دائما مع اللغة اللاتينية بتعسف مع أن التاء أيضًا حرف أبجدي عربي، وهي تعني خطأ، وكثيرا ما نسمعها في التعليق بالإسبانية على مباريات كرة قدم. وحتى لو كان الخطأ تكتيكيا يمنع هدفاً محققاً، ويفضي في النهاية لفوز الفريق الذي ارتكب الخطأ، يُسمى فالتا، وفي هذه الحالة ما أجملها من فالتا حين تضمن الفوز والتتويج. أما الجار المنفعل على الصبح، وغالبا ما يكون الليبيون نكدييين فترة الصباح لأنهم لا يفطرون جيداً، فيبدو أنه، فضلا عن النكد الصباحي، منزعج من ذكرى يوم تذكره بخسائر ما، أو على الأقل، تثير فيه قلقا من تداعيات هذا اليوم الذي تأثرت فيه طرق عيش البعض ممن يرتاحون لفكرة الحياة المختزلة في الطعام والأمان، مثل أي حظيرة تسكنها مواشٍ تخلصت من فكرة الوعي بقيم أخرى تخص معنى أن نكون بشراً. طبعا كل هذا مجرد تخمين. لكنْ لمثل هذا الشخص أشخاص كثيرون نعرفهم وهم من يستمتعون بالشماتة بعد ما حدث من مصاعب وظروف وأزمات، هي في الواقع طبيعية بعد إسقاط أي نظام شمولي متخلف في التاريخ البشري أو غير البشري، وإن ما يشمتون به هم سببه في الواقع، لأن ما أحدثوه من خراب وتجريف عبر أربعة عقود، كان لابد أن يفضي لهذا الفراغ ولهذه الفوضى العارمة التي يعن لي أن أسميها مخاضاً صعباً.

كل الأمم، الكبيرة والصغيرة، التي حدثت فيها مثل هذه الثورات، دفعتْ الثمن لفترة تقصر أو تطول حسب نوع النظام الساقط وحسب طبيعة الأمة التي أسقطته، ثم لملمت أمورها وأصبح هذا اليوم عطلة في تاريخها ستعرف الأجيال القادمة أهميته حين تقرأ التاريخ المكتوب بتروٍ، وبعضا من فلسفة الأخلاق، ومن علم الاجتماع السياسي، وبعض من روايات الواقعية السحرية، وتعرف أن التمرد من أجل الحرية غريزة إنسانية، بل غريزة لكل حي فوق الأرض، فعادة لا يعرف القائمون بالثورة إلى أين تفضي، لكنهم على الأقل يعرفون إلى أين لا تفضي.

ما يخص ردي على طرفة الصديق الشامت، فإني لم أدخل معه في هذه التفاصيل الكلية التي تهم مجتمعاً ووطناً ومستبقلاً، ولأنه يتشفّى وفق وضعه الخاص، حدثته بدوري عن وضعي الخاص قبل وبعد فبراير، ولماذا أنا شخصيا سعيد بهذا اليوم وعطلته.

يكفيني أن كتبت بعد فبراير أكثر من ألف مقالة وعدة كتب، بكامل حريتي، ودون رقابة، ولم يُحذف منها كلمة واحدة، وفي الوقت نفسه حسّنتْ الكتابة من وضعي السكني والمالي كما يحدث في أمكنة أخرى من العالم، لا يجيد فيها الكاتب سوى هذه الحرفة التي تستغرق جل وقته، والآن في ليبيا انفتحت مجالات كثيرة للإبداع في كل المجالات لأن الحرية شرط ضروري للإبداع.

وأن تكتب بحرية ويكون لهذه الكتابة مردودٌ يجعلك مستورا يكفي هذا للفرحة بهذا اليوم وبعطلته. والشكر دائما لجريدة الوسط التي أكتب فيها بحرية تامة منذ 2014 ولموقع قناة 218، الذي كتبت فيه طيلة ست سنوات بحرية تامة، وعاملوني ماديا ومعنويا بكل احترام. ما بين صديقي المرح ومؤلف النكتة الذي يعتبر 17 فبراير يوما سيئاً، وبين عنادي الذي يعتبره من أجمل أيام ليبيا، نتوه عن بوصلة الوعي بما كان لا بد منه وفق الجدل التاريخي بين نزعة القمع وغريزة التمرد، فما حصل قد حصل وكان لابد له أن يحصل، والزمن المتدفق قدما لا يطيع الحنين، ولا بد أن ندرك أن ما حصل في ليبيا زلزال اجتماعي وسياسي ووجودي، وحين يحدث زلزال أو إعصار أو حتى انقطاع للكهرباء، نرى بعض الأشخاص الذين يستغلون الفوضى يشرعون في النهب والسلب والتخريب، وهذا ما حدث لدينا، لكن في النهاية، وكما تخبرنا أيضا حتميات التطلع إلى حياة أفضل، لن يصح إلا الصحيح.