Atwasat

محطة قطارات برايتون

جمعة بوكليب الأربعاء 22 فبراير 2023, 01:06 مساء
جمعة بوكليب

يقولون إن طول العشرة يولد الحب. والحقيقة، التي لا جدال حولها، هي أن الحب وطول، أو قصر العشرة، لا علاقة تجمع بينها إطلاقاً. الحب شيء، والعشرة شيء آخر.

إذ لو كان القول المذكور آنفاً صحيحاً، لكنت وقعت في حب محطة قطارات برايتون.

لا أذكر، على وجه التحديد، اليوم أو الشهرـ الذي حطت فيه قدماي على أرضية رصيفها الأسمنتي لأول مرة. لكنّي أعرف أي عام وفي أي فصل. ومنذ أول لقاء، انبثق قائماً جدار يفصل بيننا.

فلا هي حاولت استمالتي إليها، بتشجيعي على تخطيه وثباً، ولا أنا وجدت فيها ما يثير فضولي، أو يوقد شهوتي، لأشجعها على تجاهله. لذلك، بقيت العلاقة مثل قاطرة تسير لا مبالية على قضيبين متوازيين، منذ ثلاثة عقود إلى يومنا هذا.

المحطة صغيرة، «تضيّق الخلوق»، خاصة إذا وصلها مسافر قادماً من مدينة كبيرة. أعمدة حديدية صلبة تنغرز في عمق الأرض، تحيط بالمحطة من كل الأرجاء، وتمتد صاعدة إلى أعلى. وبين كل عمود وآخر يمتد جدار من الآجر. وفي المسافة بين أول وآخر رصيف، تصل وتغادر قطارات شمالاً، باتجاه عدة محطات في لندن وخارجها، أو جنوباً إلى مناطق أخرى تقترب من ساحل البحر.

السقف الزجاجي الذي يغطيها، ويحميها من الثلج والمطر والرياح، اضطروا لتغييره في فترة زمنية سابقة، بعد أن صار لونه أسود، من كثرة ما لصق به من أدخنة قطارات الفحم القديمة. والساحة الخارجية امتداد لنفس التصميم الإيطالي للمحطة، التي دخلت الخدمة لأول مرة العام 1841، كما تقول الوثائق الرسمية.

في الساحة الخارجية محطة سيارات أجرة، تتواجد في طابور على شكل نصف دائرة، بسبب ضيق المساحة.

والبوابة الخارجية تفضي إلى طريق يقود إلى قلب المدينة، حيث ميدان برج الساعة المشهور. والساحة الخلفية موقف للسيارات. المحطة ما زالت، رغم تغير الحقب، تنتمي إلى الحقبة الفيكتورية، ولم تلمسها يد العصر التقني بعد. اللمسة التقنية الوحيدة، بدت في الشاشة الإلكترونية التي تسجل موعد وصول ومغادرة القطارات من المحطة.

وكذلك القطارات الجديدة التي حلت محل السابقة، وقربت المسافة الزمنية بين لندن وبرايتون من ساعة وعشرين دقيقة، إلى 55 دقيقة. وفي فترة زمنية سابقة، أضحت المحطة مصدر رعب لي، لكثرة ما كان يتواجد في أرجائها من رجال شرطة مسلحين، ترافقهم كلاب بوليسية شرسة، يقابلونك لدى هبوطك من القطار القادم من لندن، أو من أي جهة أخرى، ويسيرون بين صفوف الواصلين، تاركين لكلابهم مهام تشمم الخطر.

بالمحطة بار ومقهى صغير، وأكشاك تبيع مأكولات غريبة لا تعنيني. وكان بها كشك لبيع باقات الورد، تملكه امرأة في منتصف الخمسينيات من عمرها تقريباً، كنت أحرص على التردد عليها، كلما وصلت مساء من لندن، مرة كل أسبوع، وأقتني منها باقة أضعها في مزهرية جميلة، تؤنسني في بيتي حتى موعد استبدالها بباقة جديدة.

كنت أجيئها صباحاً، خمسة أيام في الأسبوع، ولمدة سنوات طويلة. ومنها أستقل القطار المتجه إلى محطة فيكتوريا بلندن، وأبدأ نهاري. وأعود إليها ليلاً، مرهقاً من التعب، وفي حاجة ماسة إلى ما يذهب عني وعثاء السفر.

العلاقة، أو بالأصح، اللاعلاقة، التي جمعتني بتلك المحطة، تختلف شكلاً ومحتوى، عن علاقتي بالمدينة- برايتون. فالأخيرة، كانت المدينة البريطانية الوحيدة التي قبلتني للعيش فيها بلا شروط. مدينة ريدنج-Reading اشترطت عليَّ حصولي على قبول من جامعتها. ومدينة لندن اشترطت هي الأخرى قبولي بحصولي على عمل.

وليس غريباً أنني وقعت في حب برايتون منذ أول نظرة وابتسامة ولقاء. لأنها، إلى حدّ ما، ذكرتني بطرابلس التي أحببتها قديماً، وليس الحالية. فهي صغيرة ومضمومة على نفسها مثل مشموم فل. ولا تخلو من أزقة ضيقة قديمة، وتحب البحر ويحبها الغرباء، والعشاق، والفنانون، والكتاب، والصعاليك. وفي شوارعها وأحيائها ومقاهيها وأسواقها وحدائقها وأزقتها عشت أياماً وليالي بهيجة.

أنستني خصومتي مع طرابلس، وفتحت أمامي أبواب أسرار كثيرة، ما كنت لأدركها، قادتني بدورها إلى سراديب عوالم خفيّة. وحين غادرتها مضطراً، كسير الجناح والخاطر، للإقامة في لندن، تركت ثلاثة أرباع قلبي بها، وعشت وحيداً في لندن، بربع قلب. وتلك معجزة!