Atwasat

استحمار الإنسان!

سالم الهنداوي الإثنين 20 فبراير 2023, 12:06 مساء
سالم الهنداوي

في الدلالة الموضوعية، الإنسان قيمة باقية، حتى وإن تحوَّل إلى حيوان في بيئة أخرى لم يشارك في صُنعها ولا في تنميتها، بل كان ضحيتها عندما خضع قسراً لشروطها غير العقلانية.

هناك من أصبح في الزمن المُختلف "حماراً" دون أن يدري، يمارس عادات وسلوك الحمار، يقفل فمه أمام العصا ويحمل أثقاله ويمضي مطأطيء الرأس عبر طريقٍ اعتاد المرور بها وإن كانت شاقّة. فمن يا تُرى يحسد الحمار على شيخوخته المضنية وقد بلغ من العُمر عتيا، مناضلاً في الحياة والعيش فيها بلا كرامة في فوضى سوق كبيرة تزدحم بجماهير الحمير، بعضها تحمل الملح، وبعضها تحمل الرمل، وبعضها تحمل الخردة، وبعضها تحمل الشعير النقي، تشتمُّ رائحته في الشمس ولاتنال منه غرفة كفّ.
لقد أصبح خيال "البهيمة" في هذه البلاد اليتيمة يبدو واسعاً حدّ الجنون، وقد يتفوّق حتى على خيال الإنسان المستأسد المتنعِّم من شقائها اليومي. فالبهيمة مهما ركبوا على ظهرها في مشاوير النهار، ومهما جرّت من عربات في الوحل وعانت مع لسعات السياط، ومهما بلغت من عناء الوقوف الطويل تحت الشمس، يظل حلمها الوحيد أن ترتمي على التراب تتمرّغ ثم تنهق وتتثاءب، وأن تنال رشفة ماءٍ من جردل مفعم بالنخالة، والنظر إلى السماء بعينين تائهتين وأذنين هامدتين مهما شاكسهما الذباب.
هذا هو قدر الصبر الذي مُني به الحمار ووُسم به وصار من صفاته غير الحميدة، بعكس الحيوانات الأخرى الواثبة التي إذا طالها الأذى توحّشت وهجمت وافترست، أو هربت قبل أن تهلك.. لكن الصبور ابن الصبور لا صوت له في الدنيا سوى النهيق حين يطرب، والتثاؤب حين ينتابه الإحساس بالوحدة.

هُنا الكلب ابن الكلب، عكس الحمار ابن الحمار. فالكلب في بلادنا، مثلاً، ورث الشراسة عن أبيه، سريع الغضب والجوع، وشديد النباح في وجه أعدائه، فهو حين يجوع يخرج عن طور كُل العادات والتقاليد، فينبح في السماء وفي وجه الريح، ويسطو على الدواجن ويهاجم كُل طريدة وسابلة، فيما الحمار في موطنه التليد ورث الصبر عن أبيه، فهو الملول بطبعه، وليس له من مضجع سوى التراب المعفّر بالبلل، والخلود إلى النوم مُتعباً وجائعاً وحزيناً، وهو ما يجعله لا يحلم سوى بالطعام ليعيش مثل الإنسان..
إن الصبر غير الجميل الذي مُني به الحمار في حياة الشقاء ونال منه، هو ما جعله فريسة للضِباع كُلّما ابتعد في الخلاء عن مالكه أو عشيرته والقطيع، فالضبع من عادته لا يفترس سوى الحمار الهزيل الذي لا حول له ولا قوة، مثل "الإنسان" الهزيل أمام السُّلطة الماكرة، يدفعه طغيانها فيسقط إلى الأرض باكياً حزيناً وعاجزاً عن الوقوف والصراخ في وجه الظلم، وهو ذات العجز الذي أوقع الحمار إلى الأرض وجعله يتمرّغ ثم ينظر إلى السماء بعينين تائهتين.

إذاً، فقيمة الإنسان ليست في مظهره الذي يتغيّر بحسن الطالع في كل صباح، ولكن بعقله الذي قد يزن بلدا ويقطف به الثمار العالية في الدنيا كرؤساء الحكومات ورؤساء الأحزاب ورؤساء العصابات، أو حتى رؤساء البلديات في دولة ينقصها العقل والدين، أو قد يفقده على باب المصرف وهو يهيم دون الحصول على ورقات من دنانير ثروة بلاده النفطية.. فليس الحظ وحده هو الذي جعل الناس غير أسوياء، وإنما القدر الذي أوجد ميزان العدل ليثقل موازينه الأقوياء.

الحمار في هذه البلاد القابعة، ينظر إلى جحوشه بالشفقة، ويبكي على فرحتهم بدخول السوق لأول مرة، فبينما تبدو فضلات السوق وفيرة، فإن الموانع تبدو كثيرة، من جهاز الحرس البلدي الذي يفرض الأتاوات على الفضلات، ومن جهاز المخابرات الذي يشتبه في العيون، إلى رجال الدين الذين يمنعون النهيق باعتباره أنكر الأصوات.. صار الجحش ضحية وضع سياسي رديء، يخشاه في النهار ويتمنّى الخلاص منه في الليل. فالحمار الذي صبر طول العُمر على الشدائد، لم يستطع إقناع جحوشه بتغيير مظهرهم ليندمجوا في المجتمع مثل بقية المخلوقات. فكأن الحمار ونسله مغضوبٌ عليهم إلى يوم الدين، بعكس الكلاب الضّالة التي تنبح في السوق متى شاءت رغم أنف الجميع.

ماذا لو رفض الحمار حياة الذُّل والمهانة في بلادٍ نأت في عزلتها الأخلاقية، وقرّر الخلاص بالهجرة غير النظامية إلى بلاد بعيدة لا وجود فيها لسيّد غشيم لا يعرف الحلال من الحرام.. لكن إلى أين يذهب وكُل بقاع الأرض سادتُها أرباب، ينعمون في السُّلطة على جهد الذليل مهما بلغ من الصبر.