Atwasat

سلة أنغام.. وحزمة ألغام

سالم الكبتي الأربعاء 15 فبراير 2023, 12:55 مساء
سالم الكبتي

(القلب يعشق كل جميل)
بيرم التونسي

زمان ..
كان المواطن العربي يحب الطرب.. ينبسط.. يعشق كل جميل بالفعل. يتذوق ما يسمعه وفي ذلك اتفقت كل الفئات دون اختلاف كبير سوى فيما ندر قياسا لبعض الظروف الاجتماعية المتباينة. وهنا نشأت طبقة من السميعة التي أتاح لها الوقت والإمكانيات أن تتابع الراديو الذي شرع يقترب من كل الأذان وتحضر السهرات.. وتستعيد اللحظات المليئة بالدندنة والايقاعات. بل تتجاوز في أحيان عديدة هذا الموقف وتشارك في جلسات المقاهي أو صالونات البيوت أو مقار العمل وغيرها بإصدار أحكامها الفنية وتقييم أداء الأصوات بعفوية واضحة.

كان هناك تفاعل بين المتلقي والفنان. بين الموهبة والناس الذين ينتظرون كل جديد. كان المواطن رغم همومه يطرب ويتمايل فرحا ويعشق كل جميل ويتذوقه بحماس واستوى الأمر في ذلك عبر تاريخ شهدته المنطقة من لحظات الانكسار والحروب والحزن والفرح وتعب الأيام. رافقت الأغنية واللحن والأداء كل الأسماء وفي كل اللحظات الإنسانية التي مر بها المواطن العربي.

غنى وطرب في لحظات الفرح مثلما فعل أيضا في لحظات الخيبة والحزن. كانت الأغنية جزءا من تاريخه وسيرته وتفاصيل حياته.

إن خير دليل على ذلك يبدو لنا أبرز شاهد على سبيل المثال بأن المواطن العربي على مستوى مسؤوليه الكبار والجموع البسيطة كان في أول خميس من كل شهر ميلادي وعلى امتداد المنطقة من المحيط إلى الخليج يرحل بأذنيه إلى الست.. بنت النيل حيث تلتقي جمهورها الواسع في حديقة الأزبكية أو الاوبرا أو سينما قصر النيل وغيرها وكان أيضا الكثير من هؤلاء السميعة يرحل بقدميه وحقيبة سفر صغيرة ليحضر شخصيا سهرتها الشهرية التي تمتد إلى مطالع الفجر.

من ليبيا فعل الكثيرون ذلك بواسطة البر والجو. وكان ثمة العديد منهم من عرفها واقترب منها وربطته بها علاقة الفن والثقافة والتذوق.

كانت الست أم كلثوم تعيش في وعي المستمع العربي. يطرب لها وينسجم ويحقق تفاعلا حقيقيا مع آهاتها وترديدها للمقاطع والجمل المختلفة عدة مرات وكان يلاحظ بأنها ومشاهير الشعراء والملحنين جددت وطورت في مسيرة الفن العربي بصورة عامة بعد ألمظ والحامولي وسيد درويش وحجازي والصفتي وصالح عبدالحي ومنيرة المهدية رغم شعورها الواضح بالتنافس والغيرة مع صوت الشام القادم إلى مصر والمتمثل في أسمهان. كان لكل من هؤلاء مدرسته وطبعه ولكن ظل لأم كلثوم إبراهيم الفتاة القادمة بالمحرمة والعقال من طماي الزهايره الطابع المنفرد لدى المتابعين للفن على الدوام.

غنت الطقطوقة والأغنية والقصيدة. ذهبت في الأيام الخوالي إلى العراق والقدس ولبنان وغنت هناك ونالت التقدير والأوسمة وحظيت بلقب كوكب الشرق. وفي كل ذلك وحتى مع تقدم عمرها ظلت تتمتع بقدرات فنية وحنجرة تستطيع الأداء بكل المقامات المعروفة وظلت تتدفق مثل النيل فنا ومعرفة إضافة إلى سرعة البديهة والرد السريع والتعليقات اللاذعة مع جلسائها ومجايليها.

من ذلك على سبيل المثال: التقت المير مجيد أرسلان أحد زعماء الدروز والاستقلال في لبنان ثم وزير دفاعه وكان معروفا بظرفه وعشقه لصوت أم كلثوم. رحب بها قائلا هلا ببنت النيل فردت عليه من فورها مرحبا يابن الكلب. وهي هنا تقصد نهر الكلب قرب بيروت!.

في فبراير 1964 عاش المواطن العربي اللقاء الفني الشهير بينها وبين الموسيقار محمد عبد الوهاب بعد فترة من التباعد والانقطاع كان وراءها الرئيس جمال عبدالناصر بذاته.

وكانت أنت عمري. وفيما كانت في مراحل تالية تعيد ويستعيد معها الجمهور العربي..أعطني حريتي أطلق يدي أنتاب المواطن العربي المقهور السامع لهذا النداء إحساس عميق بشيء يفتقده واعتبر أن الست بطريقة ما تخاطب وجدانه المكسور وترسل عبر ذلك رسالة إلى من يهمه الأمر في وطنه الكبير.

كانت سهرة أم كلثوم في الواقع منتدى للسهر والتلقي وكان يلاحظ اهتمام الحضور وحماسهم الذي لايتوقف حتى تتوقف عن الغناء. كان الجميع رجالا ونساء يحضرون بملابس وبذل أنيقة. وكانت فرقتها التي خلفها أنيقة في مظهرها وظهورها.. القصبجي والحفناوي وغيرهم. كانت السهرة صورة لزمن فني عربي ربما لن يتكرر وقد عززه في جزء آخر من الوطن العطاء الخالد لفيروز والرحابنة.

كان الوطن يحفل بالمواهب والأصوات الكبيرة ويحفل أيضا بفهم الناس لدور الفن ورسالته التي ظلت تهبط في هذا الزمن إلى قاع مظلم من السخف والتفاهة. ويبدو أن هذا الوطن يعيش فترة جديدة من الانحطاط المريع في السياسة والثقافة والأدب والفكر والفن واللباس والطعام.

لم يعد زمن العطاء المتوهج الذي يشد الإنسان مع أذنيه وقلبه وعقله. هرب من المواطن كل إبداع جميل ولم تعد القلوب تعشق الجمال فالقبح أضحى عنوانا للحياة العربية بوضوح!

عقب نكسة يونيو شاركت الست في دعم المجهود الحربي وكانت رحلاتها لهذا الغرض في أرجاء العواصم العربية والأوروبية دليلا عظيما على صدق رسالة الفن وإسهامه في تضميد الجراح والتخفيف من معاناته. وقد نجحت في ذلك نجاحا ليس له مثيل تلك الأعوام. الخرطوم وبنغازي وطرابلس وتونس والرباط وباريس.. كلها شدت مع الست.. أعطني حريتي.

الحرية أولى البدايات نحو النهوض والصحو والانطلاق.

في فبراير 1975 رحلت. ودعها الجمهور في كل مكان بالدموع والحزن وقاربت جنازتها في القاهرة أن تكون أسطورية على ضفاف النيل مثل جنازة عبدالناصر. وفي كل الأحوال ظل المصريون يؤدون لموتاهم التكريم الذي يليق بهم دون نكران أو نسيان. وأضحت أغانيها النادرة وغير النادرة قصصا لجيل مضى ويشعر بالحنين تجاه تلك الأوقات يعوض بها مأسي الفقد ومصائب التخلف.

أم كلثوم تختلف أو تتفق حولها كانت قمة شامخة من قمم الفن في دنيا العرب. أيام كان العرب يتمسكون بالفن والثقافة والإبداع. ظهرت الأصوات والمؤلفات ونمت المواهب على امتداد مدن العرب ودواخلهم ولكن ثمة فرق في رأي من عاش زمن أم كلثوم وأغانيها بين القديم المتجدد والجديد البائس في أغلب جوانبه.

كان المواطن يهرب إلى المذياع.. يشعر براحة ويدخن سيجارته ويرتاح رغم الهموم والأحزان. الآن يقبض المواطن على الجمر كل لحظة في بيته أو في مقهاه أو في شارعه. لم يعد الزمن زمن الأغاني والكلمات وسلال الأنغام الجميلة لكنه ظل زمن حزم الألغام والمتفجرات التي طغت على كل الأشياء وأزالت الجمال بكل تفاصيله من الوجود.