Atwasat

زهرة «الخشخاش»

محمد عقيلة العمامي الإثنين 13 فبراير 2023, 05:39 مساء
محمد عقيلة العمامي

«الحرية.. الحرية..» هذه الكلمة الساحرة، التي كانت وما زالت وراء حركات التاريخ وتغيرات مجتمعاته من انفراج وانعتاق، ومآسٍ، تبدو لي عندما أقرأ تواريخ تفجرها في مجتمعات عانت من كبت وتسلط، كزهرة «الخشخاش المنوم» بيضاء وجميلة، ولكن ما إن تُلقحها الريح والحشرات والدبابير... والنحل أيضا! حتى تنتج بسببها بذور هذه النبتة التي يستخلص منها الأفيون!

الحرية مطلب، ليس إنسانيا فقط، بل حيوانيا أيضا، فثعبان البحر الأخضر، الذي يسمى علميا «Anguilla Anguilla» صاحب الرحلة العجيبة التي تشكل دائرة حياته، فأنثاه، التي تعيش في الأنهار التي تصب في البحر الأبيض المتوسط، تمتنع تماما عن الأكل وتنطلق ببيضها إلى أعمق نقطة في المحيط الأطلسي، لم يصلها غواص بعد! وتلقي ببيضها هناك وتموت، وتتغذى عليها يرقاتها، التي تواصل رحلة العودة إلى المكان الذي تنطلق منه، وتعيش فيه حتى تنضج وتعاود رحلتها ببيضها لتلقى مصير أمهاتها. هذا الثعبان كان أجدادنا يصطادونه حيا من «عين زيانة» في بنغازي ويضعونه في آبار مياه شربنا ليُنقيها من «الزغلان» وهي يرقات الضفادع، ولكنه لا يضع بيضا على الإطلاق ما دام في الأسر! إن ما يمنعه من إتمام دورة حياته هو فقدانه للحرية!

أقدم الثورات قامت من أجل الحرية، ولأنه مجرد إسهاب لا داعي له أن نحكي عنها، ونحللها ونفسر ما لها، وحدث منها؛ فإنني سأكتفي باقتباس بعض من نتائج تلك الثورات التي قامت من أجل الحرية في العصر الحديث فقط، فما أريد الوصول إليه هو ما جد من بعد ما قامت هذه الحريات، من بعد أن تحرر منفذوها من مغبات الصراع الطويل بين أبناء الثورة الواحدة!

الثورة الفرنسية (1789-1799) على سبيل المثال استمر صراعها لعشر سنوات، ليس مع الملوك ورجال الإقطاع فقط، فالصراع معهم وإنهاؤهم لم يستمر طويلا لكنه استمر ما بين منفذي الثورة ورجالها، حتى بروز القائد العسكري نابليون بونابرت بعد حوالي عشر سنوات، ومثل هذا الحال، استمر في أوروبا من بريطانيا وإمبراطورية النمسا وصولا إلى الثورة البلشقية في روسيا وقيام الاتحاد السوفيتي، جميعها واحد وزعيم واحد لها. والواقع أن موضوع مقالتي ليس هذا الصراع، وإنما مغبة نتائج أخرى لم ينتبه إليها الناس، ولم يهتم المجتمع بمعالجتها، إلا من بعد أن تفاقمت مشاكلها.

في الكثير من الدول التي لحقت فرنسا بثورات لم تختلف كثيرا عن ثورتها، قامت ثورات أخرى عديدة بلا سيوف أو بارود أو مدافع، وإنما ثورات اجتماعية سلوكية خلخلت أخلاقيات وعادات وتقاليد لم تكن موجود أو حتى معروفة في تلك المجتمعات قبل قيام الثورة الفرنسية. تلك الثورات غيرت نظم الحكم وأطاحت بقوته وانتشرت معها ما يتعارف عليه بالثورة الجنسية! نسبة إلى حرية الجنس وثقافته وممارسته بعيدا عن مؤسسة الزواج والاقتران المقدس بعاداته وتقاليده وتعاليمه ونظمه.

سنة 1966 انتشرت في بريطانيا، على سبيل المثال، موضة «الميني جيب»، يعني التنانير القصيرة التي انسحبت إلى ما فوق الركبة، ليس في بريطانيا فقط ولكنها وصلت حتى إلى دول عربية إسلامية! وكانت ثورة حقيقية بلغت مداها، وفاقت ثورة الدول الإسكندنافية، السويد تحديدا، التي أباحت الجنس، ليس في الثياب فقط، ولكن في مؤسسة الزواج نفسها، وأبدعت به عن كل ما كان ينظمها ويكبلها! بلغت الحرية الجنسية مداها وأصبحت المفردات المعيبة جزءا من قواميس الحياة اليومية لدرجة أنه برزت آراء بضرورة تدريس الحرية الجنسية في المدارس. ولم يختلف الناس حيالها كثيرا، سار منهم من سار في هذا التيار، منغمسين في لذات جارفة، فيما اقتصر الكثيرون منهم في مراقبتهم بين متقبل هذا السلوك وبين رافضه. والحال لم يختلف كثيرا في معظم الدول التي وصلتها أخلاقيات الثورة الجنسية، من بعد قيام الثورة الفرنسية.

كان شباب الشرق، الذين لم تصلهم أخلاقيات وسلوكيات حرية الثورات، ينطلقون نحو اليونان في انتظار بواخر تصل أسبوعيا من إسكندنافيا، أغلبها لفتيات شقراوات من هناك، متحججات برغبتهن في تعريض أجسامهن للشمس، فيما ينطلق زنوج أفريقيا من أجل الشمس أيضا! غير أن هذه الثورة الإسكندنافية لم تثمر هناء وسعادة لشبابها، إذ سريعا ما بان التذمر واضحا، وعلت الأصوات مطالبة من الإعلام الديني والاجتماعي العودة إلى ما قبل تلك الثورة، وعلا معها صوت المحلل النفسي الكبير«إريك فروم» الذي قدمه لنا في نهاية الستينيات، وأوائل السبعينيات الأديب صادق النيهوم، و«إريك فروم»، هو القائل: «.. إن الحريات الجنسية السائدة في هذا الزمن، لا تسهم مطلقا في الإحساس الصادق بالحياة.. وإنما ببشاعتها..».

وقد نتفق، نحن أيضا مع هذا المحلل الآن من بعد متابعة بعض المقاطع العربية، وبالطبع منها (الليبية!) في بعض برامج التواصل الاجتماعي العديدة! خصوصا تلك التي اختارت اللون الأسود لشعارها، وتكتكت له مقدمات متنوعة!

هل هذا الإسفاف هو سبب تفجر الثورات هنا وهناك، هل هذا هو الهدف، الذي من أجله، انتشر السلاح، وتشرد الكثيرون. الحرية مطلب نبيل وليست من أجل (كنشه) ولا استعراض فتاة في عمر الزهور بألفاظ لم نسمعها، حتى عندما كانت هناك مواخير رسمية في عواصم بلادنا. الأخلاق لا يمكن نشرها بقوة السلاح، وإنما بقناعات تربوية، أساسها الأسرة، ثم الأسرة والفهم الحقيقي للدين والأخلاق والفهم الحقيقي للحرية، وتفسيرات وتوضيحات للتمدن والفن والإبداع وبالطبع الحرية الشخصية!.