Atwasat

التجسس بالمناطيد

جمعة بوكليب الأربعاء 08 فبراير 2023, 02:26 مساء
جمعة بوكليب

قبل أيام قليلة من ظهور منطاد التجسس الصيني في الأجواء الأميركية، كانت وسائل الإعلام على اختلافها مشغولة بمتابعة آخر المستجدات في الحرب «الأوكرانية – الروسية»، وآخر ما استلمته حكومة كييف من شحنات أسلحة غربية متطورة؛ بل وتابعنا، في وسائل إعلام غربية وعربية، تقارير تنبه إلى خطورة حروب قادمة، بأسلحة جوية تفوق سرعتها سرعة الصوت بـ25 ضعفاً، مما يعجز أحدث الرادارات عن التقاطها.

قراءة تلك التقارير، تجعل القلوب تصاب وقتياً بقشعريرة وانقباض، خوفاً على مستقبل البشرية. ثم، فجأة، ومن حيث لا ندري، ظهر المنطاد الصيني فوق سماء ولاية مونتانا في أميركا، حيث توجد قواعد عسكرية خاصة بمنصات إطلاق صواريخ فرط صوتية.

وصاحب ظهور المنطاد الصيني ضجيج إعلامي ودبلوماسي وبيانات إدانة أميركية، تقابلها تصريحات صينية تنفي تهمة التجسس، وتؤكد أن المنطاد بمهمة مدنية، وخرج عن مساره. وتدعو إلى معالجة الأمر بهدوء. وألغى وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن زيارة كانت مقررة إلى بكين للاجتماع بالرئيس الصيني. وتابعنا، على شاشات القنوات التلفزيونية، إسقاط المنطاد من قبل طائرة (إف 22) تابعة لسلاح الجو الأميركي.

وشاهدناه بأعيننا يسقط متأرجحاً من عليائه في البحر. وسرعان ما تحركت الفرق البحرية الأميركية لتجميع بقاياه، بهدف اكتشاف الهدف الصيني من التجسس.

الظهور المفاجئ للمنطاد، أعادني قرناً وأكثر إلى الوراء، وتحديداً إلى أجواء الحرب الكونية الأولى؛ حيث استخدمت المناطيد، للمرة الأولى، من قبل الأطراف المتحاربة في التجسس على المواقع الدفاعية، والتحشيدات، والتحركات... إلخ. لكن تاريخياً استخدمت المناطيد، للمرة الأولى، في مهام تجسسية خلال حروب الثورة الفرنسية.

كما استخدمت في الحرب الأهلية الأميركية للتجسس على التحركات العسكرية، بواسطة عسكريين على متنها يحملون مناظير. كما استخدمت المناطيد خلال الحرب الباردة، بشكل مكثف.
الجرائد البريطانية تحركت بسرعة خارقة لتغطية الحدث المنطادي.

ومن خلال ما نشرت من تقارير، عرفتُ أنا أن الجنرال أو الماريشال أو المشير أو الإمبراطور، نابليون بونابرت، في القرن الثامن عشر، كان أول من فكر في استخدام المناطيد في المعارك الحربية خلال حروبه المتعددة مع الجارة بريطانيا. كان القنال الإنجليزي العقبة أمام جيوشه. ولذلك، فكر في استخدام المناطيد لإنزال عسكري على الضفة البريطانية.

لكن الفكرة بقيت فكرة، ولم تتحول إلى فعل. ومهما يكن، فإن مجرد التفكير في استخدام المناطيد، ذلك الوقت، يفصح عن عبقرية عسكرية مذهلة واستثنائية.

وكنتُ خطأ أظنُّ أن المناطيد صارت جزءاً من ماضٍ ولّى وانقضى. وأن مكانها حالياً صالات المتاحف، والمواقع السياحية، حيث تستخدم من قبل الشركات السياحية لنهب ما في جيوب السائحين من نقود، مقابل إطفاء نيران حنينهم إلى الماضي. لكن الصينيين كان لهم رأي مختلف.

وتبين، فيما بعد، أن الصين ليست الدولة الوحيدة التي لا تزال تعتمد على مزايا المناطيد في التجسس. بل إن دول الغرب بقيادة أميركا ضالعة هي الأخرى في الأمر. التقارير الإعلامية البريطانية قالت إن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تنفق المليارات من الدولارات على برامج تجسسية منطادية. ولديها برنامج سري يطلق عليه اختصاراً اسم (Cold Star) وأجريت تجارب في العام 2019 في جنوب داكوتا على عدد 25 منطاداً.

واتضح، من خلال ما كشفته التقارير، أن للمناطيد مزايا كثيرة تفوق مزايا التجسس الفضائي عبر أجهزة الأقمار الصناعية المتطورة تقنياً. فهو، أي المنطاد، لا يمكن التقاطه من قبل أجهزة الردار، بسبب بطء سرعته، وطريقة صناعته. ولا يجري اكتشافه إلا بالعين المجردة.

إضافة إلى أنه يطير عالياً في أجواء تصل ما بين 60 و80 ألف قدم، أي أعلى من الطائرات العسكرية والمدنية، ولكن أقل علواً من الأقمار الصناعية. وتتميز المناطيد عن طائرات التجسس الحديثة بقدرتها على التوقف فوق الهدف المقصود لمدة تصل إلى أربعة أيام. في حين أن أقصى مدة زمنية تستطيعها طائرات التجسس لا تزيد على 30 ساعة.

والأقمار الصناعية التجسسية المسيرة في مدارات واطئة، نظراً لعدم قدرتها على التوقف لا تتمكن سوى من التقاط لمحات سريعة من أهدافها وهي تدور، في حين أن المناطيد تتمكن من تجميع معلومات استخبارية أكثر لميزة التوقف فوق الهدف لفترة طويلة.

وبالطبع، فإن مناطيد القرن الحادي والعشرين لا بد وأن تنتمي لعصرها. فهي مزودة بكل أنواع التقنيات التي تمكنها من أداء مهامها على أفضل وجه. بل ومزودة بمنصات إطلاق طائرات مسيرة صغيرة الحجم، لاستخدامها عند الحاجة. وكل ذلك يجعل عظام الجنرال نابليون بونابرت تطقطق حسرة في قبره.