Atwasat

(الغرفة 211) في موسم الحكايات! (1-2)

أحمد الفيتوري الثلاثاء 31 يناير 2023, 02:03 مساء
أحمد الفيتوري

زمان عندما كنت قارئا، أول ما أطالع في المجلات آخرها، عادة ما يكون في المجلات الثقافية قراءة في العدد الماضي مثل مجلة «الآداب» البيروتية، عندها هذا تقليد ثابت في كثير مما قرأت من مجلات، ما المتنوعة الأسبوعية منها، مثل مجلة «الصياد» البيروتية أيضا، عادة تنهي صفحاتها بملزمة مصورة ملونة، لحفلات الطبقة الراقية ونسائها الجميلات!.

وبالنسبة لي تلكم التقاليد مريحة، ومبعث لمعرفة نقدية مسبقة لمحتوى المجلة. وهذه الخاطرة المفارقة، خطرت على البال، كما «لزوم ما لا يلزم»، وأنا أقرأ متفحصا مجلة «الغرفة 211» في عددها الأول.

المجلة النوعية المميزة ما أثارت الذاكرة الموشومة بالصحافة والكتاب، فاستفزت الذهن، لاعتبارات ذاتية أولا وأخيرا: المجلة مبتدؤها خبر، الغلاف الأصفر، حجم كتاب رشق بالعلامات، بسميائية دالة: في أعلاه العدد (أ) 2023 وتحتها مباشرة اسم المجلة المفارق في الخط الحر ودلالة الاسم (الغرفة 211).

ما شرحه تحته بخط رفيع: كتاب غير دوري يعنى بالثقافة والفنون في ليبيا، ثم على حجم ثلثي الغلاف لوحة في إطار أسود، تتوسطها في الأعلى نافذة مفتوحة على مشهد ليلي وعمارات شامخة، أسفل النافذة آلة كاتبة قديمة تبرز منها ورقة.

وعلى جانبها رزمة ورق وما يبدو علبة سيجارة، الآلة على طاولة من طرز قديمة، وثمة خلفية تبدو كحائط ملصق عليه ما يوحي بقصاصات جرائد، ما بها جمل ناقصة باستثناء عبارة الغرفة 211 المبرزة.

وفي الغلاف الداخلي: غرافيك علاء أبودبوس وإخراج محمد بوقشاطة، اسما سنوغرافي المجلة ثم مخرجها طبعا.

والنسق السردي لمشهد الغلاف يومئ بالخطاب السردي للمجلة، ما محمولها أكثر من 250 صفحة وفهرسها يحتوي على 21 عنوانا، هناك مثل ليبي ولعله شائع في غيرها وإن كان بمفردات أخرى: «الربيع من فم الباب يبان»، بمعنى الباب لسان حال البيت.

هذا ما استفزز الذهن، عقب استرسال الذاكرة، ذاكرتي الموشومة بالصحافة والكتاب معا كتوأمين ملتصقين، ومن هذا بدأت علاقتي بالصحافة في المدرسة وبالكتاب في الوقت نفسه. وما زلت أتذكر (الليبي الصغير)، ملحق مجلة ليبيا الحديثة الأسبوعية الشاملة، وكتاب المطالعة ما يحتوي نص قصيدة (غيث اليتيم) لشاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي، ما قمنا بتمثيلها في (مدرسة الصابري الابتدائية).

ولعل من هذا أنبت فيّ، جذر الكتابة الليبية في الصحافة والكتب، ومن هذا تركز اهتمامي بالزرع الإبداعي الليبي، ما حصاده جلّ ما كتبت منذ أول يوم واليوم وحتى آخر يوم حسب ظني.

وبعد، لقد بدأت وعشت الثقافة من خلال المجلات، حتى اطلعت على كتب قبل صدورها، لأنها في الأخير هي عبارة عن نتاج نشر منجم في المجلات. من هنا غبطتي بإصدار مجلة «الغرفة 211»، لقد نبشت وأحييت جذر ثقافتي خاصة الليبي منها، فشاهدت «الغرفة 211» كمرآة، لنصب ساردة كحجر أساس منسي، لكنه أساس ما هو أنا، كالمجلات: جيل ورسالة والرواد وقورينا والفصول الأربعة وعراجين... هذه النصب العلامات، سرديات الثقافة الليبية في ذاكرتي وذهني.

والتي محتواها الإبداع الثقافي الليبي والعربي وشيء من الترجمات، ومنها بزغت رموز ثقافية ليبية، (جيل ورسالة) مجلة الكشافة الليبية، مبكرا رافق أعدادا منها كتاب هدية كـ «من قصص الأطفال» لصادق النيهوم، أما (قورينا) مجلة كلية الآداب من كتب فيها ورأس تحريرها طلبة من الكلية، هم من رموز الثقافة الليبية فيما بعد، و(الرواد) مجلة أصدرتها الدولة في العهد الملكي، أما (الفصول الأربعة) فمجلة اتحاد الكتاب الليبيين، بينما (عراجين) أصدرها ورأس تحريرها المرحوم (إدريس المسماري) بالقاهرة.

وجميعها أغلقت في العهد السبتمبري العسكري، باستثناء (الفصول الأربعة) تصدر حتى اليوم.

وعودا على بدء، فإن مفتاح باب «الغرفة 211» سؤال: «لماذا الغرفة 211»؟. والإجابة كتبها فريق التحرير، ما جاء: «لطالما كانت علاقة الكُتّاب بمجتمعاتهم ملتبسة، مشوبة بسوء الفهم، وكثيرا ما نُظِر إليهم على أنهم مخلوقات مزعجة، تعكر صفو المجتمع. لقد جسّد الأديب خليفة الفاخري هذا التنافر مطلع السبعينيات، في نص يعد من كلاسيكيات الأدب الليبي «موسم الحكايات». يصور الفاخري كاتبا منعزلا، في غرفة تحمل الرقم 211 في فندق عتيق، يطل على مدينة ضيقة الصدر.

ينهمك الكاتب الذي يشعر بوحدة عميقة، ورغبة في الحديث إلى آخرين، في سرد الحكايات الشيقة، التي تملأ ذاكرته وقلبه. وما إن يمضي في نقر الآلة الكاتبة، حتى يشرع نزلاء الغرف المجاورة، في الشكوى من صوت حروفه المزعجة. ينتهي الحال بالكاتب مطرودا من غرفة إلى غرفة، وهو لا يزال يعتقد أنه يكتب للآخرين».

وفي هذا الجواب توضيح لدوافع اسم المجلة، أي أنه استعارة عن المفارقة الأدبية في نص الفاخري، وتستطرد المجلة في توضيحها «إن هذه المفارقة الأدبية لا تختلف كثيرا عن الواقع، إذ طالما اعتقد الكتاب أنهم يكتبون لمجتمعاتهم، فيما تشتكي مجتمعاتهم من ضجيج هذه الكتابة التي تعكر سكينتهم».. وفي آخر صفحات المجلة، من ص 220 إلى 246 دراسة قيمة كتبها خالد مطاوع (غرفة الفاخري، وغرفة فرجينا وولف: نحو إدراك أدبي بديل).

آخذين في الاعتبار أن تأويل غرفة في فندق، يذهب إلى مجتمع غريب ومتنوع، وأن الإزعاج في مكان كهذا يقع تحت طائلة القانون ما يمنعه، ومن هذا قد نضيق ذرعا بالنحل، لكن نجني عسله بشغف. كذا المبدعون الذين نضيق بهم، وبالتحديد المتمردين منهم الذين يحرصون هم، على التباين مع الجماعة، وعلى أن ينفردوا بعيدا في عزلة، ما وصمها بعضهم بالبرج العاجي، حيث يكون للمبدع وكر، هناك حتى يتمكن من نسج سردياته، بأن ينظر عن بعد للمشهد ويتأمله في معزله، هكذا المبدع يضيق بالقطيع الذي أيضا يضيق به.

وهذه في تقديرنا معادلة متوازنة، تنتهي بانفراد النص وموت المؤلف.