Atwasat

نهبٌ وليس فسادًا

سالم العوكلي الثلاثاء 17 يناير 2023, 12:14 مساء
سالم العوكلي

ما عدت أرغب في الحديث الممل عن أزمات هذه البلد ومحاولة وضعها في سياق المنطق، أو الحسابات السياسية، أو الحتميات التاريخية، ولا عدت أرغب في أن أحلل أسباب الأزمة ومآلاتها، ولا التفكير في الحلول والخروج من النفق، أو المصالحة الوطنية، أو الانتخابات كوصفة دولية، أو التأسي بمؤسسي هذا الكيان، أو إنقاذ الغابات مما تتعرض له من تجريف، والشواطئ التي تحتل بالأسوار والأسلاك الشائكة، أو القمامة التي تتراكم في الشوارع والطرقات والوديان، ما عدت أرغب في الحديث عن اليأس الآمل أو الأمل اليائس، أو عن إلهام الثورات عبر التاريخ وقدرها الحاكم وما آلت إليه من فوضى ودماء قبل أن تخلد إلى الهدوء.

أرغب في أن أتحدث عن حصيلة أو محصلة كل ما حدث بعكس نظريات المنطق المتحمسة التي تبدأ من الجزئي إلى الكلي، والحديث عن النتائج كثيرا ما يكشف وهم الفرضيات الغبية التي سبقتها. الفرضيات تنفع في العلم المجرد المعزول في مساحة ضيقة في مختبر، لكنها محض هراء حين تتطفل على خبط عشواء السياسة ولهو التاريخ حين تكون الصدفة إحدى محركاته والفوضى العارمة طريقته في التعبير عن نفسه، فأثر فراشةٍ طفيف قد يقلب غرور الفرضيات المتقنة الصنع رأسا على عقب، وكل ما هو صلب عادة ما يذوب ويتبخر في الهواء، ولهذه الأسباب وغيرها يعترينا شغف حزين باستخدام أداة (لو) التي يضعها النحويون في جدول أدوات التمني، لكنها في سياق اليأس تصبح أداة تحسر بامتياز، تلوح أمامنا كأثر رجعي لأحلام تتمنع، تجعلنا نعيد التفكير فيما حدث، وكيف وصلنا إلى هنا. وهذه الـ «لو» هي المثال الأوضح لتفسخ منهج الفرضيات كمدخل للبحث في مسائل تتعلق بأمزجة البشر ونزواتهم، وهي مثال على الحسرة التي تَفترض أن الحاضر صنيعة الماضي الذي نتمنى لو أننا تحدرنا منه.

حين وصلنا إلى حضيض تفننا في صنعه، اجتاحت هذه الـ «لو» أحاديث الناس، الذين يحاولون معرفة أين خسرنا ولماذا، وكيف تحولت بلاد تشكيلتها على الورق، كما يقول المحللون الرياضيون، قادرة على الظفر بالفوز على أي تحدٍ يقابلها، تتمتع بإمكانات تُرشِّحها لأن تكون وطنا سعيدا ينافس بقوة في مؤشرات السعادة الدولية. ومن أمثلة هذه الـ «لو» التي نحاول الآن، ونحن في ذروة تنقيح أقدارنا، وضعها أمام أحداث تاريخية بعضها يبدو كأثر فراشة وبعضها يبدو كأثر فيل في حديقة منزلية صغيرة:

<<لو» أن الفاشية لم تقم في إيطاليا وظل الملك هو الحاكم في روما، ونجحت مبادرات الحكم الذاتي في الغرب والشرق والجنوب، ألن يكون الوضع الآن افضل؟!

<<لو» لم ينتصر الحلفاء في الحرب على المحور وظلت إيطاليا بفاشيتها المعدلة تحكم لفترة أخرى، ألن يكون بدل كل مقر ميليشيا في العاصمة دار أوبرا؟!.

<<لو» أن مندوب هايتي لم يرفع يده في التصويت ضد مشروع بيفين سفورزا المطروح على منظمة الأمم المتحدة، واستمرت أقاليم ليبيا تحت وصاية ثلاث دول أوروبية لمدة عشر سنوات أخرى تنال بعدها الاستقلال كما ينص المشروع، ألن تكون ورشة العمل الحضارية هذه مفيدة لكي تنمو الفراشة قبل أن تخرج هشةً من اليرقة؟!.

<<لو» أن الملك لم يُقِل أو يقبل استقالة رئيس الوزراء، السيد عبدالحميد البكوش، الذي كان لديه عزم على تطهير الجيش من الضباط ذوي الولاءات الحزبية المرتبطة بأحزاب عربية، ألن يكون التاريخ أخذ مسارا مختلفا يجنبنا الوقوع في براثن حكم عسكري متخلف؟!.

ولو أن مذكرة القبض على الملازم ثان معمر القذافي التي أصدرها العقيد عون أشقيفة طُبِّقت، إلى آخر اللوات التي لوت أعناقنا صوب سراب الفرضيات التي أصبحت لدينا تعقب النتائج.

هذه اللوات الساذجة التي لا تمت للراهن ولا للمستقبل بصلة، والتي يعتبرها الكثيرون أحد أعراض النوستالوجيا المَرَضية لمن يعتقدون أن الخطأ في النتائج سببه مقدمات خاطئة، حتى وإن كان المتفائلون نظرياً يعتبرون التاريخ ملهما وزاخرا بالدروس والعِبر، ويدعون دائما لقراءته كي يضيء مستقبلنا، وهذه اللوات جزء من هذه القراءة التي من المفترض أن تجعلنا لا نكرر أخطاءنا ولا نقع في نفس الكمائن، وفي عالم الحيوانات الغبية فقط ظلت الفئران على مدى السنين تقع في نفس الكمائن المنصوبة لها، لأنها كائنات غير مثقفة وعديمة الوعي، ولا تراكم للمعرفة لديها، ولا تكتب أو تقرأ تاريخها، ولا تستخدم هذه الـ «لو» بالذات.

حسنا، سأترك تداعيات الـ «لو»، وأعود إلى ما بدأته عن الحصيلة أو المحصلة من كل ما حدث في هذه السنوات التي أعقبت سقوط النظام السابق.

المحصلة التي يعرفها الليبيون جيدا أن اللصوص سرقوا الوطن، نعم. لا يمكن وصفهم سوى باللصوص، بل كل أنواع اللصوص التي نعرفها، ومن هو واثق ممن تصدروا المشهد من نزاهته فليستثنِ نفسه من هذا التعميم المنفعل. ولست وحدي من يقول هذا، فكل ليبي أدلى بصوته من أجل أن تطفح ما يسمى الطبقة السياسية يؤكد هذا، وكل مبعوثي الأمم المتحدة قالوها، وتقاريرهم وإحاطاتهم في مجلس الأمن تحدثت بصراحة عن هذا الفساد غير المسيطر عليه، رغم أن تسمية الفساد لا تنطبق كثيرا عما سماه غسان سلامة (النهب). نهب لا يشبه الفساد المومأسس الذي تتحدث عنه تقارير في دول ديمقراطية وغير ديمقراطية كبرى، وفي الفيفا وحتى في لجنة جائزة نوبل، وهو فساد يحدث لكنه لا يوقف عجلة التطور والتقدم في دول يعن لها أحيانا بفضل سلطاتها المنفصلة أو حرية صحافتها أن تكشف الفاسدين وتعاقبهم، أو على الأقل تسترجع ما اختلسوه.

أما في ليبيا فالأمر لا يرقى للفساد بهذا المفهوم، إنهم لصوص وكفى، وليسوا حتى من نوع اللصوص المحترفين الذين يتمتعون بالذكاء والكاريزما ويبذلون، أو يقفزون من السور ليلاً أو يكسرون الأقفال، أو يغرون كلاب الحراسة بقطعة لحم دسمة. لصوص تقليديون يناسبون فولكلور الدولة السياسي، فاللصوص التقليديون بينهم اتفاق ضمني على تقاسم مناطق النفوذ والغنائم، وإن حدث إخلال بالاتفاق يتقاتلون لفترة حتى الوصول إلى اتفاق آخر عادة ما تسميه نشرات الأخبار بالتقارب بين الأطراف، والملاحظ أن اتفاق جنيف الأخير الذي من المفترض أن يوحد المؤسسات السياسية لم يوحد في الواقع إلا مجموعات الفساد.

البرلمان، وما يسمى مجلس الدولة الاستشاري، والحكومات الدولية والوطنية، المعترف بها أو غير، وكل الأطراف المناط بها حل المشكلة الليبية، كلهم صائدو جوائز، خصومٌ في الضوء ورفاق في الظلام، وحتى العداء المضمر بينهم هو من باب صاحب حرفتك عدوك، يتخاصمون كمتشردي الشوارع حين يعتدي أحدهم على منطقة نفوذ الآخر، ويظهرون الرغبة في المصالحة حين تختفي الجزرة وراء عصا التهديد الدولي بالعقوبات، وكل المبادرات الدولية والإقليمية والمحلية لا تعدو كونها محاولات منمقة لشرعنة هذا الفساد وإطالة مدى اللعبة.

يتناقل الناس قول ملياردير كبيرــ اشترى عبر تجارة المخدرات أراضى بعشرات الملايين، وبنى أبراجا وفنادق وأسواقاً ضخمةــ يقول بتبجح نحن نبيع سلعة مرغوبة تنسي الناس همومهم، ولم نعتد على المال العام ولا مصدر قوت الشعب، ولا اغتصبنا أراضي الدولة، ولا هرّبنا الوقود والمهاجرين والحديد والنحاس. والكثيرون معجبون بهذه الصراحة، فحين تكون سيئا وسط حشد من الأكثر سوءا تبدو كالتهاب المرارة مقارنة بالسرطان الفتاك، والمحصلة مَن في يديهم الحل لا يريدون حلا لأن الحل يخرجهم من المولد.

فيا ليبيون، أقصد الذين لم يتورطوا في اللصوصية حتى الآن لأسباب دينية أو اجتماعية أو تربوية، حين تحكم بلدكم أطراف لا ترى في البلد سوى ياغمة، لا تتوقعوا حلا منها، وأفضل الحلول التي يبتكرونها ستكون من أجل أن يطيلوا مكوثهم في هذه المهنة، أو الخروج من المولد بحصانة تحميهم وتحمي الورثة من العقاب.

هكذا عبّر المبعوث السابق عما سماه افتراضا «فساد الطبقة السياسية» بالنهب، لأن الناهبين مثل قطاع الطرق لا يبذلون جهدا فيما يحصلون عليه، وهم في عجلة من أمرهم ولا يثقون في أحد ولا في بعضهم البعض، ولا يمكن أن يكفوا عن اللعب بنا إلا بالإطاحة بهم، كيف ومتي لا أعرف. وكل ما أعرفه أننا نتابع من حين إلى حين أخبار لصوص كبار أعادوا ما نهبوه، أو وضِعوا خلف القضبان، وحتى ذلك الحين علينا أن نسمي الأشياء بأسمائها، وأن نرقى ــ على الأقل ــ بظاهرة «النهب» إلى ما يسميه العالم فسادا corruption ويضعون له جداول ومؤشرات وآليات لضبطه ومراقبته، لأن الفساد مضمر في تركيب الرأسمالية البنيوي، وجزء من عقيدتها، وناتج ثانوي عن تفاعل نظرياتها الاقتصادية، وأقصى ما تفعل التخفيف من انبعاثاته، وألا يكون Decay التي تعني فيما تعنيه: «تحلل، تفتت، انحطاط، تفسخ، عفن، وهن>>.