Atwasat

رسائلُ دون متلقٍ

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 15 يناير 2023, 12:56 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

كتاب هبة الله أحمد "ثورة الفانيليا: رسائل من المطبخ"(1) كتاب عصي على التجنيس. فهو لا يلامس الأجناس السردية، القصة والرواية والسيرة الذاتية والمذكرات الشخصية، إلا ملامسات خفيفة. وإذن، من الأفضل الاكتفاء هنا بالأخذ بالتجنيس الذي وسمته به كاتبته، أي "رسائل" وأنه كتاب "أدبي". أنه يندرج تحت مفهوم "الأدب" و "الأدبية" بما هما مفهومان جماليان. فالكتاب ينزل هذه المنزلة بجدارة لا مطعن فيها.

الرسائل فيه من نوع خاص، توجهها شخصية العمل إلى رجل تخاطبه في رسائلها بـ "صديقي" ومن مكان لا تُكتب فيه الرسائل عادة، وهو المطبخ. الناحية الأخرى أن هذا الرجل الصديق لا يرد على الرسائل، كما أنه رغم حضوره المهيمن في هذه الرسائل لا نعلم عنه شيئا. إنه، بالنسبة إلينا، مجرد "طيف"، وقد يمضي بنا التفكير إلى اعتباره شخصا لا وجود له وأنه مجرد تخيل من صاحبة الرسائل (دائما أتحدث عن صاحبة الرسائل، وليس عن المؤلفة) المتعطشة للحب.

لماذا اختارت المؤلفة "الفانيليا" من بين التوابل ومنكهات الطعام؟

توصف الفانيليا بأنها نبات عشبي متسلق. وربما ثمة في هذه الصفة دلالة على تشبث صاحبة الرسائل بصديق (حبيب؟) لا يولي الرد على رسائلها اهتماما (إلى درجة أنها تسأله مرة: "أتراك نسيتني أم لم تتذكرني قط ؟" (ص 80) وتقول له مرة: "أتساءل أأكتب لي أم لك؟" (ص 80) وتقول له: "لا أعلم يا هذا إن كنت أكتب لك أم أكتب إلي.. لا يهمني كثيرا إن كنت تقرأ لي وإن تمط شفاهك وترفع حاجبك الأيسر، أم إن كنت لا تقرأ.." (ص 137) أو أنه شخص من اختلاق خيالها وصنع أشواقها. ولعل المقتطف التالي يدعم هذا الاستنتاج الأخير: "أخط بعض الحروف لأخطو خارج أسوار سجني، محاولة لأجد ترياق [كذا] للانتظار المسموم، والفكر الموسوم بك، والوعي المتورم بلا جدوى" (ص 137). كما أن الفانيليا نبات دائم الخضرة، ولعلنا نجد في هذا دلالة على توقد روح صاحبة الرسائل واضطرام أشواقها. والفانيليا ثاني أغلى التوابل بعد الزعفران، وإذا كانت صاحبة الرسائل تماهي نفسها مع الفانيليا، فيمكننا استنتاج نظرتها إلى نفسها. وتدخل الفانيليا في صناعة الآيس كريم وتنكيه الأطعمة والمعجنات وأدوات الزينة والعطور، وبذا يمكننا استنتاج حضورها المهيمن والإيجابي في حياة صاحبة الرسائل شديدة الوله بإعداد الأطعمة المختلفة.

توصف الفانيليا بأن لها حضورا ناعما، حضورا أنثويا مثيرا، لكن ثورتها، إذا ثارت، تحول هذا الحضور الناعم الأنثوي إلى عنف شديد.

وإذن، نعتقد أن عنوان الكتاب ينطوي على المعاني والدلالات التي أوردناها قاطبة.

تتحدث الرسائل عن المطبخ والطبخ، وفي هذا السياق أرغب في القيام بإطلالة مقارنة مع عملين روائيين لكاتبتين يجري الحديث في متنهما عن الطبخ والأكلات.

الرواية الأولى رواية إيزابيل ألليندي "أفروديت" (2) التي تربط فيها الكاتبة بين الطعام والإيروسية على نحو صريح ومباشر، حيث تقول في مقدمة الكتاب "لا أستطيع فصل الإيروسية عن الطعام [...] حيث الحدود بين الحب والشهية واهنة إلى حد أنها كانت تضيع مني كليا" (ص 13- 14). وتقول "النهم طريق مستقيم نحو الشبق" (ص 16). وتقول أيضا "الناس الذين يكسبون عيشهم بجهدهم ويصلون خفية [...] يرتجلون في القدور وبين الملاحف أفضل ما يستطيعون، مستفيدين مما بين أيديهم دون تفكير كثير ودون مبالغات كبيرة، شاكرين ما تبقى لهم من أسنان والحظ الهائل لامتلاكهم من يعانقون" (ص 16). وتورد الكاتبة وصفات بعض الأطعمة بالمقادير وطريقة التحضير وخطوات الطبخ.

الرواية الثانية للروائية التركية إليف شافاق "لقيطة إسطنبول" حيث تعنون الكاتبة كل فصل من فصول روايتها باسم نوع معين من التوابل ومواد الأكل: قرفة. حمص. سكر. بندق محمص فانيلا. فستق حلبي. قمح. حبات الصنوبر...إلخ. وفي هذه الرواية أيضا وصفات كاملة لإعداد بعض الأكلات.

لا تكلف هبة الله أحمد نفسها مثل هذا الجهد. وإن كانت تشير إلى إعدادها بعض أنواع المعجنات والأكلات.

في ثورة الفانيليا تحتجزنا صاحبة الرسائل معها في المطبخ، عالمها الخاص الذي تبسط عليه سيادتها ويمثل مملكتها التي لا ينازعها فيه منازع. علاقتها المباشرة في مجال السيادة هذا مع أدوات المطبخ ونشاطاته: حوض المطبخ والصنبور والغسل والجلي والتجفيف والأكواب والصحون والملاعق وموقد الغاز والثلاجة، إضافة إلى النافذة والراديو الذي يبث في هذه المملكة الموسيقى والأغاني. الكائنات الحية الوحيدة التي تشاركها التواجد في هذه المملكة قطة وعصفور وعنكبوت ينسج خيوطه وينشره في ركن من أركان المطبخ، مثلما تنسج هي أفكارها وتأملاتها وخيالاتها وتنشرها في رسائلها "وسط الزحام وأبخرة أواني الطهي، وجلبة القطة والعصفور على شباك المطبخ، كي أداري رعشة أصابعي وهي تبوح لك وسط كل هذا الصخب.." (ص 113) هذا الحضور الشامل (الشمولي؟!) للمطبخ في الرسائل جعل المؤلفة تكتب إهداء الكتاب على هذا النحو: "إلى الذي لا يملني أبدا يفتح لي أبوابا لحيوات موازية ينشر حولي عبقا من فرح وشجن وأحلام وبهار شكرا لأن كلانا [كذا] يعيد تعريف الآخر.. المطبخ وأنا".

يتعلق الطعام بالغريزة والمتعة، متعة حواس الذوق والشم والنظر، وربما حتى السمع من خلال أصوات الغليان والقلي. فهو العامل الأفعل في استمرارنا على قيد الحياة، ولذا يعد شحه في مكان ما دافعا للهجرات والثورات والحروب والجريمة. وما يرتبط بالغريزة والمتعة يرتبط بالإيروس، مثلما أكدت إيزبيل ألليندي. ورسائل بطلة "ثورة الفانيليا: رسائل من المطبخ" تغمغم، غمغمات مكتومة غالبا، بهذا البعد الإيروسي. أي أن البعد الإيروسي يشير إلى نفسه تلميحا "... فالتلميح يا عزيزي هو العجز اللغوي الأكثر جاذبية، إلا أنه يظل عجزا" (ص 129). لكن في مقاطع قليلة تمكنت الغمغمة الإيروسية من أن تكون مسموعة.

"أجد هنا قبيلة من النساء المحررات المتجردات من كل قيد وسر، كل منهن تنفث في وعاء الطبخ نكهتها وسرها الدفين وأيروسيتها المختبئة خلف العادات والمسموح" (ص 92).

"تحول فراشي مع الوقت لمقبرة هجرها زوارها، جف حلق الصبار من العطش لكلمة أو بسمة ترويه، تسرج الذكرى في الروح قناديل السكات، وأنا هنا ممددة على سريري عيني معلقة بالسقف، الذي يهبط رويدا رويدا مع مرور الوقت ليجثم على صدري، يئن القلب، يصارع القلب ألسنة اللهب، تسخر مني صورتي في المرآة" (ص 106)

"وأنا وحيدة، تناوشني أغصان الشوق، تبكي غصوني افتقادها لهديل صوتك" (ص 108).

"حينما أشتاقك كثيرا.. أرسمك في أثناء نومك، ألون ظهرك في أثناء استحمامك [...] وقد أقدم جسدي إليك إن كنت جائعا، وعادة ما ينضجني نهمك إلي" (ص 120).

*

أريد أن أختم بالقول، هذا كتاب أدبي فعلا، متميز فعلا (وربما متفرد، فعلا، أيضا) وافر المتعة، جدير بالقراءة والاهتمام من قبل النقاد.

(1) هبة الله أحمد. ثورة الفانيليا: رسائل من المطبخ. المثقف للنشر والتوزيع. (د. م)، (د. ت). والصفحات الواردة في المتن تحيل إلى هذه الطبعة.

(2) إيزابيل ألليندي. أفروديت: حكايات ووصفات وأفروديتيات أخرى. الترجمة عن الإسبانية: رفعت عطفة. ط1. ورد للطباعة والنشر والتوزيع. سورية- دمشق 2000. وأرقام الصفحات المشار إليها في المتن تحيل إلى هذه الطبعة.