هل عندما كتب الأخوان رحباني كلمات أغنية السيدة فيروز ليالي الشمال الحزينة، كانا يقصدان ليالي (الشتاء)؟ وهل كانا يقصدان الباب الذي قد (يتسكّر) في الفقرة الأخيرة من الأغنية من جراء (رياح الشتاء):
يا حبيبي
وبحبَّك عَ طريق غِيابْ
بِمَدى لا بيت يخَبِّينا ولا بابْ
خَوفي لَلبابْ
يتسَكَّر شي مَرّة بين الأحبابْ
وتطلّ السكينِة.. بلَيالي الحزينِة.
الأرجح نعم، فثمة أبحاث ودراسات أثبتت أن فصل الشتاء يصيب الناس بالإحباط الفكري والجسدي، قرأت مقالًا تقول كاتبته إن الشتاء وسماءه الملبدة بالغيوم تغمرها بالكآبة! قد تختلفون معها، مثلما أختلف أنا، لأنني أحب المشي في هذا الفصل أكثر من محبتي له أثناء الصيف، فالرياح، ولا أقول العاصفة، تنعشني ولكنها لا تتسبب في كآبتي.
البارحة، بعدما خرجت من بيتي، عدت سريعًا وارتديت ثيابًا أكثر دفئًا فلقد أحسست بالبرودة، لكنها أنشطتني.. وبعدما عدت إلى بيتي قالت الأخبار إنه بسبب حالة الطقس أوقفت محافظة الإسكندرية الدراسة، وغالبًا ما يتساوى الطقس في بنغازي وإسكندرية، ولا يصل منه إلى القاهرة سوى رياح شمالية باردة، ومثلما ذكرت تشجعني على رياضة المشي، فأنا من أولئك الذين يكتبون وهم يمشون، على الرغم من أنني لا أنتمي فكريًا إلى المدرسة المشّائيّة.
تقول كاتبة البحث، الذي أشرت إليه، إنها بدأت تعاني، بعد بلوغها العشرين من العمر، من كثرة النوم والتبلد والانقباض خلال هذا الفصل، ولزمن طويل ازداد إحساسها بالكمد، بمجرد أن تقصر نهارات فصل الصيف، وتنام أطول وتستقيظ مرهقة حزينة، وفوق ذلك تستحوذ عليها الأفكار السوداوية، وتزداد كآبتها ونهمها وكثرة تناولها للحلويات والنشويات، لكنها تستعيد طبيعتها ونشاطها ما إن يهل فصل الربيع.
يشير البحث إلى أن أطباء الإغريق القدامى- لعلهم من المدرسة المشّائيّة - هم أول من لاحظ أن صحة المرء العاطفية تتغير بتبدل فصول السنة، وأبحاث العصر الحديث اكتشفت أن قصر النهار يطلق تفاعلات كيميائية، هي التي تسبب أعراض القلق والكمد.
والكائنات الحية يتبدل حالها من أجل البقاء، ومعظم هذه الحيوانات تتلقى إنذارات عبر أدمغتها، فعلى سبيل المثال عندما يقصر النهار يعدل الدماغ مستوى الهرمون في الجسد! وينام المصابون بالاعتلال الفصلي ساعات أطول خلال الشتاء، وخلال فصلي الصيف والخريف يزيد المرء من استهلاك النشويات، فـ (الرز اللحسي) المنكّه بالقديد، والمحمصة الجارية، و(المبكبكا) يزداد استهلاكها في الشتاء وتتخزن هذه (الكاربوهيدرات) لتعوض نقص الغذاء خلال مبيت الإنسان القديم خلال فصل الشتاء، بسبب حالة الطقس وضرورة احتمائه داخل كهفه، تمامًا مثلما يقل خروجنا من منازلنا أثناء فصل الشتاء!
أما الخالق البديع لنا جعل من الحاجة إلى الدفء يرتبط بموسم التزاوج، بحيث تزداد المواليد خلال فصلي الربيع والصيف، فرعاية المواليد تكون أيسر وأسهل، ولعل مناظر الخراف بصوفهن ناصع البياض، الذي لم يعلُه غبار المرعى كصوف أمهات هذه الخراف خلال فصل الربيع منظر لا تخطئه العين، حتى إن (حولى الربيع) متفرد في شكله وأيضًا مذاقه!
والخلاصة أن قوى الطبيعة حددت خصائص مأوى أجدادنا البدائيين، ونحن شيدنا بيوتنا وفق تلك الخصائص، ووجهت أجدادنا بعفوية نحو غذاء من الطبيعة، محدد يتناسب والحاجة إليه، وهذا ما نفعله الآن لكن بالضرورة وليس بعفوية.
إن ما يحتاجه إنسان العصر الحديث، مثلما يقول البحث، هو أن تكون جريئًا في مواجهة البرد وتدريب أجسادهم على التكيف وأن نشاط المشي على سبيل المثال أثناء الشتاء يمد الجسم بمقاومة طبيعية للبرد، ولا ينبغي الإفراط في التدفئة، فالهواء الجاف، يقلل الأوكسجين، ويضعف اليقظة العقلية، كذلك يحتاج الجسم إلى غذاء أكثر لحاجته لوحدات حرارية تزيد عما يحتاجه في فصل الصيف، ثم إن نسبة كبيرة من حرارة الجسم تتسرب من خلال الرأس فاعتمار قبعة يكون مفيدًا لذلك، وفوق ذلك أمر مهم للغاية هو أن تدخل البهجة إلى حياتك سواء بالزيارات أو الابتكارات الغذائية، أو ممارسة الهوايات الشتوية وتعزيز الأواصر الإنسانية كافة.
أعترف بأنني عندما قرأت هذا البحث، ابتهجت كثيرًا، فلأول مرة انتبهت إلى أن عادتنا الشتوية هي ما اكتشفها العلماء وكتبوا عنها نظريات وأبحاثًا وأصدروا كتبًا، ونحن نقوم بها بعفوية بالغة، فحمدت الله أننا نتصرف بإنسانية خلال فصل الشتاء، وتمنيت على الله أن نتصرف - بإنسانية- كاملة خلال بقية الفصول خصوصًا خلال فصل الصيف الذي أصبح موسم استعراض الموتوسكيلات الملونة فوق رؤوس الأطفال مباشرة!
تعليقات