Atwasat

ليبيا.. ليست وهما جغرافيا

خالد العيساوي الجمعة 06 يناير 2023, 12:56 صباحا
خالد العيساوي

ما زلت أذكر تلك المادة الدراسية التي كان يتوجب عليّ اجتيازها وأنا أتجهز لنيل درجة الدكتوراه، كانت مادة مثيرة وجذابة وباعثة على الفضول، لقد كان عنوانها المتميز، وكذلك ما يطرح فيها من موضوعات، حافزاً كبيراً يجعل الدارس يقبل عليها برغبة جامحة، فلقد كنا نشعر ونحن في قاعة الدرس أننا في رحلة من الخيال تأخذنا إلى عالم بعيد عن الواقع، لننفلت من قيود الجسد والزمان والمكان... إنها مادة (العجيب والغريب في الأدب).

ولعل مما يدخل في هذا الباب ما نجده في بعض الكتب القديمة من حكايا غريبة عجيبة عن بلدان زارها الرحالة والبحارة، وأتوا لنا عنها بقصص ونصوص تتماهى والطبيعة البشرية الساذجة في تلك الأزمنة، تلك الطبيعة التي تصدق كل ما يحكى لها عن تلك البلاد الغريبة التي لا يدري أحد عنها شيئاً إلا ما يرويه أصحاب الخيالات الواسعة، والكلمات الجميلة الأنيقة الآخذة بألباب البسطاء.

ولذلك نجد في تراثنا قصصاً كثيرة يرويها السندباد وعلي بابا وعلاء الدين وغيرهم، بل قصصاً ترويها شخوص حقيقية غير خيالية كالمسعودي الذي تحدث في كتابه (مروج الذهب) عن «إرم ذات العماد»، وهي أمة عظيمة تعيش على شاطئ بحر تخرج منه سمكة كبيرة كل سنة يقتات الناس من لحمها، وفي العام الآخر يقتاتون من الشق الآخر منها، ليكون الشق الأول الذي اقتاتوا منه قد التأم، وكالقزويني الذي أخبرنا في كتابه (آثار البلاد وأخبار العباد) عن جزيرة «واق واق» الواقعة في بحر الصين، جزيرة بها أشجار على هيئة نساء معلقات من شعورهن يصدرن أصواتاً شبيهة بقولك (واق واق)، وهي أرض وصفت بأنها كثيرة الذهب، تحكمها ملكة تجلس على عرشها عارية وتزين رأسها بتاج من الذهب، ولها أربعة آلاف جارية كلهن عراة أيضاً.

وإذا أردنا المزيد من هذه القصص التي يزخر بها التراث البشري فلدينا قصص وروايات خرافية كثيرة تتخذ لمسرحها أماكن لا وجود لها ولا حدود، من أمثال: (المدينة الفاضلة)، و(حي بن يقظان)، و (روبن هوود)، و (جبل قاف)، و (جزيرة النساء)، و (مدينة النحاس)، وغيرها من القصص التي تحكي عن مكان مجهول، وزمان مجهول، ولعل من أحدث هذه القصص والروايات رواية (يوتوبيا) للكاتب «أحمد خالد توفيق»، ورواية (الوصفة رقم 7)، لكاتبها أحمد مجدي همام، حيث الجغرافيا أقرب إلى المتخيل الوهمي منها إلى الواقع الحقيقي، وحيث الزمان زمان مطلق في العادة، وحيث تكون العلاقة بين الإنسان والمكان والزمان علاقة خيالية تستدعي أحداثها من المخزون الأسطوري الخرافي للذاكرة الجمعية، وتستلهم مجرياتها من المتخيل السردي للكاتب، بعيداً عن سنن الكون وقوانينه، لترسم بذلك لوحة تعكس غرابتها وجاذبيتها وتفردها وتميزها.


في هذا السياق كتب السيد حسني زينة كتابه: (جغرافيا الوهم)، الذي عمد فيه إلى جمع عدد من القصص التي تدور مجرياتها على أرض غير موجودة في الواقع، كما أن أحداثها تتأرجح بين الأسطوري والخرافي، وقد رأى أن الجامع بين هذه الأقاصيص جميعها أنها تصدر عن الوهم، هذا الوهم يتقاطع مع الجغرافيا، ولذلك سمى كتابه (جغرافيا الوهم) ليُنتج هذا التقاطع تصوراً وهمياً غير حقيقي عن العالم زماناً ومكاناً وأحداثاً، وربما استفاد حسني زينة مما أشار إليه المستشرق الفرنسي (أندريه ميكل) حين قال: «لماذا لا نأخذ نصوص الأدب الجغرافي الإسلامي باعتبارها تشكل كلاً واحداً، هادفين إلى استعادة العالم الذي كانت تُحِسه وتدركه وربما تتخيله وجدانات ذلك العصر.

بعيداً عن كل ما سبق، كتب على «فيسبوك» الدكتور محمد عبدالمطلب الهوني اليوم قائلاً: «ليبيا اليوم... وهم جغرافي»، وإذا كان لهذا المصطلح (الوهم الجغرافي) مفهوم ينطلق من البعد التاريخي، حيث يرتبط بشكل وثيق بتاريخ الجغرافيا الوهمية غير الحقيقية، كتلك التي أشرنا إليها آنفاً، فإن له بعداً آخر نقدياً يعكس قراءة صاحبه للواقع المعيش على أرض ما، لتشي هذه القراءة بقبول صاحبها لهذا الواقع أو رفضه.

نقول: إذا كان الدكتور الهوني ينطلق من البعد التاريخي الجغرافي لهذا المصطلح فإننا لا نتفق معه في ذلك، ذلك أن خصائص هذا المصطلح لا تدل على أرض موجودة فعلاً، أرض لها نقطة ارتكاز يمكن الرجوع إليها، وليبيا جغرافياً تتجسد على الواقع بحدودها واتساعها ومساحتها وجيرانها وبمن يعيش عليها، وإذا كان الدكتور الهوني يرتكز في رؤيته هذه على هشاشة الدولة فإننا نرى أنه لا يرتكز على ركن شديد، فالدولة الليبية وإن كانت تمر بوعكة صحية، فإنها ستتعافى وتعود إلى قوتها، ولنا في دول كثيرة مجال لنضرب به الأمثال كإيطاليا وألمانيا ورواندا وجنوب أفريقيا وغيرها.

أما إذا كان البعد النقدي هو ما كان وراء ما قاله الدكتور الهوني اليوم فلا بأس في ذلك مع شيء من التحفظ أيضا؛ ذلك أن من يراقب الفوضى السياسية والاجتماعية الواقعة في ليبيا اليوم، يخيل إليه أن ما يراه من أحداث ومجريات هي أقرب إلى بلاد الواق واق وجزيرة النساء، وليس إلى بلد تحددت جغرافيته بوضوح، أو عصر تقيد زمنه بجلاء، وكأنها أحداث تنتمي إلى أساطير وخرافات تجري على أرض تقبع خلف البحار السبعة، على أننا مع ذلك نود أن نسأل صاحب المقولة: منذ متى صارت جغرافيا ليبيا وهما بهذا البعد النقدي؟ هل من تاريخ محدد تجلت فيه هذه الرؤية؟

إن هذه الرؤية (القراءة) بمفهومها النقدي «إن تجلت في ذهن صاحبها» لتشي بعدم رضا صاحبها، أو من يتبناها على الأقل، عما يراه ويسمعه من أحداث، بمعنى أن الواقع المعيش حين ينفلت من قوانين العدل والحق يبتعد عن المأمول، وهذه الفجوة العميقة بين المأمول والمدرك هي التي تجعل الواصف يصف الجغرافيا التي هي مسرح الأحداث بأنها (جغرافيا الوهم).

هذه الرؤية النقدية لمصطلح (جغرافيا الوهم)، سواء قصدها الدكتور الهوني أم لم يقصدها، لا تهدف إلى استدعاء المحسوس والمتخيل ولا حتى المدرك لوجدانات العصر كما قال المستشرق الفرنسي (أندريه ميكل)، بقدر ما يراد لها أن تنبهنا إلى حالة الاغتراب التي يعيشها الإنسان تحت ظل أحداث هي أقرب إلى الأسطورة والخيال منها إلى الواقع والممكن، أحداث يتجلى فيها البعد اللا معقول واللا منطقي، لتحيل الحياة بأكملها إلى متخيل سردي يحكي مشهداً خرافياً، لعلنا بهذا التنبيه وبهذا الجرس نفيق من سباتنا، ونزيل الغشاوة عن أعيننا، خاصة وأن (جغرافيا الوهم) في بعدها التاريخي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالماضي، ولا يدرك أصحابها أنهم يعيشون الوهم، وينظر فيها الراصد إلى ما يحدث خارج الإنسان من ظواهر عجيبة، أما (جغرافيا الوهم) في بعدها النقدي فتجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، ويدرك أصحابها طبيعة الوهم الذي يعيشونه، أو لنقل: طبيعة الانفصام الذي يعيشونه، كما أن الراصد فيها ينظر إلى ما يحدث داخل الذات الإنسانية من أحاسيس ومشاعر وآمال وآلام وإحباطات وانهزامات وصراعات وحتى تطلعات، علاوة على نظرته لما هو خارج الإنسان.

إن هذا المشهد غير المرضي الذي تعيشه البلاد جعل من مسرح الأحداث وكأنه مسرح وهمي، ومن الشخوص وكأنها شخوص خرافية، ومن الزمن وكأنه زمن متطاول مطلق، فغدا الخبر المسموع يترنح بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والوهم، بين التصديق والتكذيب، وجعل المتتبع يظن أن الأرض التي تجري عليها الأحداث هلامية، وأن الحقائق زئبقية، وأن الجغرافيا وهم من الأوهام.

على أن المأمول يظل مخالفاً للواقع، ووراء هذا المأمول طموحات ودوافع، كما أن الأمل يمسح ببلسمه وجع الألم، والخير فيما يأتي به القدر، ولا بد أن تعود الجغرافيا يوما إلى طبيعتها المعهودة، لتحضن أبناءها بدفئها، في لوحة يتطابق فيها الواقع والمأمول… أختم بما قاله الشاعر الهادي آدم:

وغداً تأتلق الجنة أنهاراً وظلاً... وغداً ننسى فلا نأسى على ماضٍ تولى
وغدا نزهو فلا نعرف للحزن محلاً... وغداً للحاضر الزاهي نحيا ليس إلا.