Atwasat

مونديال قطر حسن الختام

أحمد الفيتوري الثلاثاء 20 ديسمبر 2022, 12:54 مساء
أحمد الفيتوري

كتب إدواردو غاليانو في كتابه الأشهر«كرة القدم في الشمس والظل»، «كان ألبير كامو هو القديس بطرس، الذي يحرس بوابة مرمى فريق كرة القدم بجامعة الجزائر، وخلال سنوات ممارسته لحراسة المرمى، تعلم كامو أشياء كثيرة. تعلم أن الكرة لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا، من الجهة التي ننتظرها منها، وقد ساعده ذلك كثيراً في الحياة، وخصوصاً في المدن الكبيرة، حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة.

وتعلم كذلك أن يكسب دون أن يشعر بأنه إله، وأن يخسر دون أن يشعر بأنه قمامة، وهذه حكمة شاقة.

كما تعلم بعض أسرار الروح البشرية، وعرف كيف يدخل في متاهاتها، في رحلات خطرة، على امتداد كتبه».

مونديال 22 سنة 2022 في قطر، هكذا أعلن المذيع، كنت والصديق الراحل الكاتب إدريس المسماري، ذلك اليوم من سنة 2010م ببيتي في سهرة نتابع الأخبار، هللنا وعزمنا أن نحضره.

لم نناقش الأمر، معتبرين أن المونديال حفل البشرية كل أربع سنوات وإجازتها من كدحها، وأن يحدث في منطقتنا بالقرب من بيتنا، هذا في حد ذاته مكسب ليس بحاجة لجدال. ثم أخذتنا الذكريات، عرفت أول كأس عالم، دورة لندن 1966م ، من خلال راديو ترانسستور، ثم على ما أذكر حينها عرض فيلم ملون ملخص للدورة، في دور العرض بمدينتي بنغازي.

منذها لم تفتني دورة حتى في السجن، حيث عدنا لمتابعة دورة 82 إسبانيا 12 عبر الراديو. هذا رغم أني لست رياضيا، ولا من متابعي الكرة المستديرة، ولم أصب بجنونها العذب، لكن كأس العالم غدا عندي وأقراني بلسم الروح، ما نستنشق كل سنوات أربع ونسكر بعبق عطره.

نعم بت كالكثير من الليبيين من مشجعي الفريق اللازوردي، إيطاليا ما كانت قد جعلت «الكالشو» طريقة إيطالية، تشبه «السباغيتي» سلسلة سهلة لذيذة وطعم العالم. وتطور وسائل الاتصال ما قلبها التلفزيون، جعل كرة الأرض مسرحا يعمه أكثر البشر، وكرة القدم العرض المسرحي المشوق، الذي حقق قول الفيلسوف شيلر:«الإنسان لا يكون إنسانا إلا حين يلعب، ولا يلعب إلا حين يكون إنسانا».

مونديال قطر 22 تابعته في القاهرة، كما تابعت سنة 2018م مونديال موسكو21، لقد أخذت منذ اليوم الأول أتجول بين المقاهي الشعبية لحضور المباريات. ما لاحظت في البدء ندرة المتابعين للدورة، لكن ما قلب الطاولة، فوز فريق السعودية على الأرجنتين، التي يرشحها المختصون ومشجعوها للفوز بالكأس، ثم زاد الجمهور تألق فريق المغرب، ففوزه المتتالي على فرق شهيرة، وكثيرا ما أيقظني من سرحاني صراخ جمهور المقاهي المصري، عند أي لعبة قوية من فريق المغرب، ما حتى خسرانه للمباراتين الأخيرتين، لم يزح الجمهور المصري عن تشجيعه والتهليل بلعبه المميز.

مونديال قطر استثناء ليس في المكان والزمان فحسب، بل استثناؤه في المتعة، حيث كسر التوقعات، فجعل القاعدة فيه استثناء بمعنى الكلمة. لأنه عرض لشهر من المفاجآت الكروية وغير الكروية، وتفاصيله قوية وفاعلة كما متنه، ومن هذا لفت نظر الكرة الأرضية جملة إلى استاد كرة القدم. فجعل الكثير من البشر حتى غير المهتمين ينشدون إليه، فالجديد فيه كثير ومنه غرائب بسيطة لكنها غرائب، في المحصلة تحصل على أفضلية أن يكون الخبر والعاجل.

كما رافقته صور إنسانية، فقيم بدا أنها قديمة وغربت عنها الشمس، مثل الاحتفاء بالعائلة وعلى رأسها الأم.

ما تبين على الخصوص عند الفريق المغربي. ثم إن اللاعبين لفرق من قارتين أصلهم من قارة واحدة، حتى أصبح مونديال قطر مونديال أفريقيا، كثر من لاعبي فرق أوروبا أصلهم من القارة الأفريقية، وقد تألقوا كما تألق لاعبو الفرق الأفريقية.

مونديال قطر 22 حدث والعالم في خطر، فأوروبا القارة المركز في حرب، لكن مركز المونديال الإنسان، حين يكون إنسانا حين يلعب، فالمعارك كانت تدور في ملاعب قطر، لكنها معارك السلام. وما وراء هذا وما قبله الإرادة، ما تمظهرت في مونديال سهل ممتنع، كل شيء فيه لافت للنظر دون شغب ولا تذمر ما، وفي ملاعبه كرة القدم ترفعها أيادي ملايين من المشجعين كرسالة سلام، وأن بالإمكان أبدع مما كان.

والملاحظ أن هذا كان شعلة المونديال، منذ إيقاظها في أول مباراة حتى مسك الختام، مباراة الكأس المترع بالمتعة التي بطعم المفاجأة، لعب هي الحياة والحياة لعبة جميلة ممتعة، هكذا لسان حال حسن الخاتمة المباراة الأخيرة، عندما جلس الفائزون بالكأس وأطفالهم ونسائهم، على عشب ملعب «لوسيل» في دعة ووداعة مميزين.

مونديال قطر شهر متعة محض، لم أغادر فيها مقعدي في مقاهي القاهرة، فقط لمباريات قليلة عند الظهيرة حضرتها في البيت، معتبرا أن ما أقتنص سويعات العمر في آخره. لكنها عندي كما لو أنها مونديال لندن 66، شجعت بحماس الصبي، ذاك ما كنت وما عدت إليه: الصبي من ترتعد فرائصه، عند اللعب المباغت الجميل، عند الهدف، حتى عند الفشل في إحرازه.

مونديال قطر آيس كريم في يوم قائظ، الكأس فيه أن الفوز ليس الهدف، وأن الهدف ليس خسران الخصم بل: قول الفيلسوف شيلر:«إن الإنسان لا يكون إنسانا إلا حين يلعب، ولا يلعب إلا حين يكون إنسانا».
كل سنة وأنتم طيبون ...كل مونديال وأنتم في سلام بخير.