Atwasat

الناس بالناس

محمد عقيلة العمامي الإثنين 12 ديسمبر 2022, 02:57 مساء
محمد عقيلة العمامي

"الشارع أعظم مدارس الحياة، فلا تهدم فيه سياجًا إلا إذا عرفت سبب بنائه، ولا شيء يجعل فيه الظلم أكثر عدلًا إلا التسامح، وفيه تتعلم أن الحياة مستمرة لا تتوقف!".

هذا رأي - قد - تتقبله، أو قد يكون لك وجهة نظر أخرى، إنه رأي تأسس على أقوال من الشاعر روبرت فروست، الذي استمر من أكثر شعراء أمريكا شعبية، حتى وفاته سنة 1963؛ فلقد سألوه مرة عن ماهية التعليم فقال: "الكتب وحدها لا تعلّم أحدًا! التعليم لا يكتمل إلا إذا كانت لدينا القدرة على الإنصات، والاهتمام بما نسمع، وفوق ذلك ألا نفقد أعصابنا إن سمعنا ما يسيء لنا، أو إلى من عرفناهم حق المعرفة، وأن تكون ثقتنا في أنفسنا كاملة".

ويؤكد دائمًا أنه من الشارع واختلاطه بالناس والتعاطف معهم، والاستماع الجيد إليهم وهم يحكون عن متاعبهم وأفراحهم، "الشارع أعظم مدارس الحياة، ممن تلتقون فيه من بشر سوف تدركون معنى الحياة ذاتها..".

ولقد تناولت من قبل، أقوالًا سمعتها في طفولتي وصباي من شخصيات كثيرة التقيتها في مدينتي، اشتهروا بأنهم يرددون، جملًا ومقولات محددة بالنغمة نفسها، وبابتسامة محببة، وما عرفت معناها إلا بعد زمن ليس بالقصير؛ منهم ذلك الرجل الباسم المكافح الذي يطوف بقفة سعفية محملة بزجاجات عسل محلى، وأعشاب مجففة من الجبل الأخضر تستخدم نكهات في الطعام، يسوقها بودٍّ في بنغازي، وظللت أسمعه يردد جملة واحدة، كلما صادفته في نواحي ميدان الحوت وأقواس شارع عمر المختار، الذي ينتهي في ميدان البلدية، كان يردد طوال مسيرته اليومية عبارة واحدة هي: "خلقهن وما كانن.." بمعنى أن الله خلقهم ولم يكونوا من قبل، والقول جزء من أغنية علم، أو قصيدة البيت الواحد، مثلما أسماها الشاعر الأديب المرحوم خليفة التليسي: "خلقهن وما كانن، عليه ما مكادا رزقهم" والمعنى الله خلقنا من عدم وبالتأكيد لا يعجز عن توفير حاجياتنا الحياتية، وأصبح الناس يسمون ذلك الرجل: "خلقهن!" وكفى.

في شارع عمر بن الخطاب، أو (فياتورينو) في بنغازي كان هناك محل لا تتجاوز مساحته مترين في متر، يباع فيه الخضار اليومي كان مقابلًا لورشة نجارة البوري، وكان يردد على الدوام: "عدى يا لول، جاك الثاني.."، والمعنى: "أرحل، فثمة من سيلحق بك"، ولم أعرف أنه يذكر الناس بأنهم راحلون وأن الأحياء سيلحقون بهم وظل يرددها إلى أن رحل، رحمه الله، ولحق بهم، ابنه المرحوم مفتاح حبارة، أحد أفضل حراس مرمى نادي التحدي، وأيضًا من فني تلفزيون بنغازي القدامى، وهو أيضًا زميلنا في المرحلة الابتدائية، بمدرسة الأمير!

ورحلت تلك العجوز، التي عاشت زمن المملكة الليبية، والتي كانت تعبر أسواق: شارع بوغوله، ثم الجريد، نحو سوق الظلام، وصولًا إلى سوق الحوت وتعود نحو الصابري وهي تردد: "زغرتي يا ليبيا.. كوشي يا ليبيا" وكان أصحاب المحلات يكرمونها ويتفاءلون بها.

شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي، كان يحلو له الجلوس في أماكن ومقاهٍ معروفة في بنغازي، وكذلك الشاعر عبد ربه الغناي، وارتباطه بسوق الحوت ونواحيه، وخليفة الفاخري والحاجز الحديدي أمام المقهى الرياضي، ثم مقهى دمشق وصادق النيهوم أمام دار (سي سليم) بمصيف جليانه، والأستاذ محمد عبد الرازق مناع، والمطرب على الشعالية وعبد الهادي الشعالية.

شخصيات كثيرة عايشتها في بنغازي، كانوا بالفعل يُعلمون مما يستفيدون، ويتعلمون من الشارع، وبعلاقاتهم اليومية به، من مراقبتهم للحياة والناس، فكانوا مثلما سمعت من سي عقيلة: الناس بالناس؛ والناس بالله! وهكذا كان أكثر شعراء أمريكا شعبية!