Atwasat

أيام الدكتاتور الأخيرة

سالم العوكلي الثلاثاء 06 ديسمبر 2022, 01:39 مساء
سالم العوكلي

منذ أيام تابعت الفيلم الوثائقي الذي بثته قناة العربية تحت اسم "القذافي: الأيام الأخيرة" ولأنه يروي حكاية أيامه الأخيرة في السلطة والحياة، كان الضيوف أو الشهود ممن رافقوه في هذه الأيام أو بعضها، رغم أن من ثاروا عليه أيضا ذاقوا مر سخريته وتنكيله وجنونه المرضي في هذه الأيام الأخيرة، لكن القناة اكتفت بثلاثة شهود، هم: إبرهيم موسى، مصطفى الزايدي، خليفة فرج، فرج إبراهيم، محمود عبد الحميد، ابن أخت القذافي. وكان حديثهم المشوب بالعاطفة الجياشة يضحي بالحقيقة لصالح الوجد، وهذا ليس غريبا، لأنهم فقدوا بنهاية آلهتهم كل المصالح والنفوذ والحظوة.

يقول إبراهيم موسى، الناطق باسم القذافي: كان القذافي يقول شدوا الجرذان الذين اندسوا بينكم.

وهذه العبارة قيلت منذ البداية حين كانت الميادين المتمردة مكتظة بشبان الطبقة الوسطى من الجيل الرقمي الذي به بدأ الربيع العربي، والذي سعى منذ البداية للحوار مع أنظمة لا يوجد في قاموسها مصطلح الحوار بعد أن تألهت وعاشت وَهْمَ أن تقول للشيء كن فيكن.

وصفُ هؤلاء الشبان بالجرذان الذي ما زال يستخدمه الناطق باسم شبح القذافي، سيظل وصمة عار تلاحق تاريخ هذا النظام ومعاونيه، وتعكس حقيقة نظرتهم لشعبهم الذي طالما عاملوه فعلا مثل الجرذان.

الحكاية لم تبدأ مع الثورة التونسية، ولا يوم 17 فبراير الذي تفرع عن ظاهرة الربيع العربي الذي أربك العالم في بدايته، فهي استطراد منطقي لملحمة أربعة عقود من التنكيل بشرائح واسعة من هذا الشعب الذي جرى فيه الانقلاب العسكري حين كان في ذروة فرحه بدولته المستقلة الوطنية المدنية الأولى في تاريخه، والتي لم يمض على تأسيسسها عقدان.

ملحمة من السجن والإعدام والتجويع والتصفية للنخب الليبية برمتها ولمؤسسي هذا الكيان منذ إعلان نقاطه الخمس وما سماه بالثورة الثقافية وتطهير البلاد من المرضى، والمرضى في قاموسه هم النخب الليبية المختلفة معه ومع أفكاره والمطالبة بدولة مدنية دستورية.

كان ضيوف الشريط الوثائقي من المؤيدين لنظام القذافي ويحق لهم أن يدافعوا عنه بحساب ما تكبدوه من خسائر شخصية، لأنهم كانوا مستفيدين من عبادتهم لشخص القذافي بينما 90% من الليبيين هم من ضحاياه بطرق مختلفة، وهؤلاء هم من ملأوا الميادين منذ بداية الحراك من شبان ورجال وشيوخ ونساء وأطفال وصفوهم بالجرذان.

وقد عاشوا شظف الحياة في إحدى أغنى الدول فوق الأرض، ومع الزمن وبتصفية النخب تلاشت مطالب الدولة المدنية والحقوق والدستور، لكن الضيق وصل إلى قلب حياتهم اليومية والعسف وصل إلى إحساسهم بالأمن الإنساني في وطنهم وبيوتهم. الخدمات الصحية تردت، والتعليم انهار في كل مراحله، المرتبات الهزيلة لا تكفي حتى لشظف العيش، ولا بنى تحتية في أي مجال، لا طرق ولا شبكات كهرباء ولا موانيء ولا مطارات ولا مقار جامعات ولا ولا. وما نعيشه الآن هو تداعيات طبيعية لأربعة عقود من الخراب المنظم وفي كل المجالات، خراب في المعنى وخراب في الكيان المادي والبنى التحتية، وخراب في كل ما من شأنه أن يبني إنسانا كي يبني وطنه.

يقول الزايدي: اتصلنا بهم منذ البداية وقلنا لهم ماذا تريدون؟. لكن السؤال تأخر أربعة عقود مثلت في تاريخ ليبيا أكثر فتراتها ظلاما وقهراً، فلماذا لم تطرحوا هذا السؤال حين كنتم في أبراجكم العاجية تقدسون كل ما يهرطق به قائدكم وتحيلونه إلى حِكَم وهتافات، ثم قوانين وقرارات؟.

يحق للناطق موسى إبراهيم أن يحن لقائده ولزمنه الشخصي الجميل، ولأيام تبختره في جامعات بريطانيا موفدا للدراسات العليا ليعود في منصب يعادل وزيرا للإعلام، ويحق أيضا لآلاف الطلاب المتفوقين الذين حرموا من إكمال دراستهم، بل حرموا حتى من الحصول على وثائق تخرجهم وكشوف درجاتهم أن يثوروا في لحظة ما على نظام صادر كل أحلامهم.

في هذا الزمن الجميل الذي يتحدثون عنه كنت أعيش تحت خط الفقر كالملايين مثلي والذين كنت أقابل عينات منهم في المصارف في طوابير طويلة من التكنوقراط، نصطف لساعات طويلة من أجل أن يتكرم علينا المصرف بخمسين ديناراً (على الأحمر) هي مصروف شهر لأن المرتبات الهزيلة كانت تتأخر لشهور، وكنا فعلا تكنوقراطا؛ من مهندسين ومعلمين وموظفين بدرجات كبرى، لا نملك في ذلك (الزمن الجميل) قوت يومنا.

طيلة الوثائقي كانوا يتحدثون عن القذافي فقط، الذي اختزل ليبيا وتاريخها وشعبها في شخصه، ولا أحد منهم تطرق للشعب الذي كان يبيع كل ما يملك من أجل أن يعالج أمراضه في مصر أو تونس أو الأردن، ولا عن الطلاب الذين شنقوا في الجامعات والميادين العامة، أو هجروا خارج البلد، أو حرموا من إكمال دراستهم وجريمتهم الوحيدة كانت التميز والتفوق.

ولا عن المتسولين الذي اكتظت بهم الأرصفة، ولا عن طلابنا وشباننا الذين قضوا بعشرات الآلاف وتاهوا في الصحارى في حروب إقليمية لا ناقة لنابها ولا جمل. لم يتحدثوا عن الشعب المنكوب ــ ولا ألومهم ــ لأنهم في الواقع لم يكنوا يرون أو يعرفون شعبهم في زمن لا يرون فيه سوى قائدهم في يقظتهم ومنامهم وفي سموات ساعاتهم. وليبيا التي مُنِع حتى اسمها من التداول لا وجود لها قبله أو بعده.

خليفة فرج، الحارس الشخصي للقذافي، كما تُعرِّفه قناة العربية: "خروجنا من طرابلس يعني أن مرحلة من مراحل المقاومة انتهت". فلا أدري عن أي مقاومة يتحدث؟ إذا كان الشعب أو أغلبيته هي الطرف الآخر الذي يقاومونه، ولكن ليس هذا غريبا من أشخاص يرون أن ليبيا ملك العائلة والحاشية، وأن الليبيين المنتفضين مجرد غزاة يسعون لاستعادة وطنهم وحريتهم، ولابد للعائلة وحاشيتها وخدامها من أن يقاوموا هذا الغزو الداخلي.

ووصف (مقاومتهم) للشعب يشبه المصلطح الذي اقترحه المرشد الأعلى في إيران لقمع احتجاجات شعبه الآن حيث سمى هذا القمع "جهاد التبيين".

قناة العربية كانت تروي الحكاية من وجهة نظر واحدة تحول فيها السفاح إلى ضحية شعبه المتمرد الذي خطيئته أنه لم يؤمن بهذا الإله الذي يقدمه رسله وأنبياؤه من ضيوف الوثائقي، وكان الحديث ينم عن حالة نفسية (سايكو) مستفحلة بها الكثير من الخرافات وليس تاريخيا ولا وثائقيا.

أشخاص محوا ذواتهم واندمجوا كليا مع الذات المستبدة، ومثل هذا الانمحاء المرضي لا يُطرح إلا في سياق علم النفس أو في دراما مسرحية هزلية، أو في إطار تراجيديات أبطالها منغمسون في الوهم لا يعترفون بالنهاية، ولا بأن نظما قمعية كثيرة انتهت عبر التاريخ وذهبت إلى مزبلته، والنبش في المزابل لن يفضي سوى إلى إثارة الروائح الكريهة من جديد.

يبرر البعض مصطلح المقاومة بتدخل المجتمع الدولي، وهو تدخل اضطراري جاء بناء على قرار من الجامعة العربية والأمم المتحدة، لأن العالم الذي ذاق مرارة إرهاب هذا النظام يعرف ماذا سيفعل بشعب تمرد عليه وأهانه علنا، ولو تُرك يفعل ما يشاء فستكون مذبحة يندى لها جبين هذا المجتمع الدولي إذا تأخر في التدخل مثلما حدث في مجازر رواندا والبوسنة.

هذه الدول هي التي دججت ترسانة القذافي بكل أنواع الأسلحة حين كانت تفرض على الدول النفطية أن تُنشّط سوق السلاح حتى وهي ليست في حاجة له، وهذه الترسانة ستتوجه في تلك الفترة صوب الشعب الأعزل، والرتل الذي كان على تخوم بنغازي دليل على قرب المذبحة التي لا بد لها أن تُوقف.

لذلك هذه الدول عليها أن تتحمل مسؤولية إتخامها لترسانة النظام بهذه الأسلحة ومسؤولية التخلص منها، لأنه كما قال ضيوف قناة العربية، هذا النظام كان يقاوم شعبه، ولأن هذه الترسانة والكتائب المدربة لم تجهز من أجل تحرير فلسطين أو حماية الحدود، ولكن للحفاظ على هذا النظام الذي كان رأسه لا يستطيع التنقل في بلده إلا وهو محاط بآلاف الحراس المدججين.

أنا كنت ضد قانون العزل السياسي شكلا ومضمونا، وكتبت عن ذلك كثيرا، وكنت مع طي صفحة الماضي لتتسع ليبيا للجميع، وكنت مع كسب الخبرات الليبية التي عملت إبان النظام السابق كتكنوقراط يشاركون في بناء الدولة الجديدة، لكن أن يخرج كل مرة شخص من الحاشية ويستمر في إهانة شعب قرر في لحظة فارقة أن يتخلص من الدكتاتور الذي كم تلاعب ونكل به، فهذا أمر مزعج، وكل من شاركوا في هذه الحقبة المعتمة من الدوائر الضيقة والمقربة من الدكتاتور مطلوب منهم أن يعتذروا للشعب الليبي، وأن يعترفوا بما ارتكبوه في حقنا، لأن هذا جوهر الحقيقة والمصالحة، والخطوة الأولى نحو العدالة الانتقالية.

هؤلاء الحاشية هم من كانوا يسمّوَنَ الحرس القديم الذي وقف ضد كل محاولات المصالحة والإصلاح، وهم من تسببوا في هذه النهاية لقائدهم، وبدل أن يشمتوا في الليبيين ومعاناتهم الآن، لابد أن يعرفوا أن كل ما يحدث الآن وما سيحدث على مدى قادم هو تداعيات طبيعية لنظام عمل طيلة أربعة عقود على تجريد البلد من أي بديل، وتفصيلها على مقاس عمر النظام الذي كان لابد أن يسقط كأي نظام حُكم فردي دكتاتوري سقط عبر التاريخ. لقد تنبأ القذافي نفسه بهذه النهاية في كتاباته، وعن روعه من الجموع التي رفعت موسيليني على أكتافها ثم علقته من قدميه. لكن أتباعه مازالوا في غيهم يعمهون.