Atwasat

بريطانيا: ما بعد العاصفة

جمعة بوكليب الأربعاء 26 أكتوبر 2022, 11:48 صباحا
جمعة بوكليب

أخيراً، أذعنت رئيسة الحكومة البريطانية السيدة ليز تراس للواقع، وغادرت المسرح غير مأسوف عليها. رابع رئيس حكومة بريطانية في مدة ست سنوات يُدفع قسراً خارج «10 داوننغ ستريت».

السيدة تراس، عقب الانتهاء من خطاب الاستقالة في 90 ثانية، لم تذرف دمعاً كما فعلت قبلها السيدتان ثاتشر وماي، ربما اعترافاً بجسارة ما ارتكبت من ذنب، ممثلاً في الضرر الذي أحدثته بالاقتصاد البريطاني، خلال فترة إقامتها القصيرة جداً في ذلك البيت التاريخي.

خروجها السريع والمذل، في ذات الوقت، يعدّ هزيمة للجناح اليميني المتشدد، والمناويء لأوروبا في حزب المحافظين. وضربة قاصمة لمشروعه السياسي، الذي ينادي به من التسعينيات من القرن الماضي. الهزيمة الأولى لذلك الجناح كانت بخروج السيدة مارجريت ثاتشر. الفرصة الآن مواتية للجناح المعتدل ( يمين الوسط) في الحزب، لاستعادة الإمساك بدفة المركب، على أمل الوصول، بالحزب وبالبلاد، إلى مرفأ آمن، إن توفر.

بريطانيا ما قبل مرحلة الخروج من الاتحاد الأوروبي، غير بريطانيا في مرحلة ما بعد الخروج. ما حدث ويحدث حالياً لم يسبق لي مشاهدته، كمراقب سياسي

وصارت أقرب ما تكون إلى بلد قد خرج لتوّه من حرب أنهكته، حقق خلالها نصراً بطعم هزيمة، بسبب شدّة ما لحق به من خسائر في العتاد وفي الأرواح. ولم يعد في خزائنه من أموال تتيح له فرصة النهوض.

الحلول المقترحة للخروج من الأزمة لا تتفق والإمكانات المتاحة. والفرص المتوفرة أمام حزب المحافظين لاستعادة ما فقد من خسائر وسُمعة سياسية لم تعد ممكنة، بسبب قصر المسافة المتبقية أمام انعقاد الانتخابات النيابية القادمة.

الجناح اليميني المتشدد في الحزب يعزو ما حدث إلى رد فعل الأسواق المالية بالتشارك مع بنك إنجلترا المركزي، ضد الميزانية المصغرة التي قدمتها السيدة تراس، لضخ الحياة في الاقتصاد الراكد، وتنشيط النمو، عبر تخفيض الضرائب ، ومن دون توفير غطاء مالي لتعويض الخزينة البريطانية عما ستفقده من أموال.

والحقيقة، أن الأسواق والبنوك أخذت بالمفاجأة، والسرعة التي تحركت بها السيدة تراس من دون تمهيد للأجواء، وتوفير البيئة المناسبة سياسياً، وتجاهلها التشاور مع البنك المركزي. وهو تدخل سياسي تخوف منه ونبه إليه مفكرو الاقتصاد الليبرالي الجدد، في عام 1945، وسعوا إلى تلافيه، من خلال إيجاد مؤسسات مهامها الحفاظ على انسيابية حركة السعر في السوق، ووضع اللوائح والقوانين لحمايتها من التدخل السياسي.

الليبراليون الجدد، في النمسا وألمانيا، كانوا يرون أن حركة السعر في السوق تشبه سلك نحاس يوصل الكهرباء بسرعة البرق. ولتفادي التدخل الخارجي، يجب تغطية السلك النحاسي بغطاء بلاستيكي. مهمة المؤسسات المنظمة للوائح السوق وحركته مثل الغطاء البلاستيكي.

أولئك المفكرون الاقتصاديون كانوا يتوقعون أن التدخل السياسي سيأتي من الأنظمة ذات التوجه اليساري (الأنظمة الوطنية والاشتراكية) بسبب موقفها المناويء لحرية السوق في النظام الرأسمالي، وسعيها للتدخل في انسيابية حركة السعر، إلا أن تطورات الأحداث منذ العام 2015، وانتشار المد الشعبوي في أميركا وأوروبا، أثبت خطأهم.

ولعلنا ما زلنا نذكر الاضطراب الذي أحدثه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بتدخله في إنقاذ صناعة الحديد والصلب الأميركية، والضرائب الجمركية التي فرضها على المنتوجات الصينية والأوروبية حماية للصناعات الأميركية. وهاهي السيدة تراس تدفع بالأمور في ذلك الاتجاه وبشكل أكثر جرأة وسرعة، من خلال تدخلها سياسياً في ديناميكية السوق، في تحدٍ غير مسبوق، وفي بلد كان المهد للنظام الرأسمالي.

الحكومة البريطانية الجديدة التي ستشكل يوم الجمعة القادم الموافق 28 أكتوبر الجاري، ستجد نفسها في وضع استثنائي مالياً، وعليها في فترة قصيرة زمنياً توفير الأموال اللازمة لتغطية العجز في الخزينة العامة، وإعادة الانضباط إلى دفاتر الميزانية، وضبط الإنفاق العام، لكي تستعيد ثقة الأسواق المالية في أقرب وقت، وتحظى باستعادة ثقة الناخبين، مما يجعلها في سباق مع الزمن، ويضطرها إلى تبني سياسات اقتصادية تقشفية، ورفع نسبة سعر الفائدة، مما يزيد في تضييق معاناة مواطنين أرهقهم انفلات التضخم، وغلاء الأسعار.

وبالتالي، ستؤدي تلك الإجراءات والسياسات إلى إتاحة الفرص أمام البديل العمالي للعودة إلى الإمساك بدفة المركب بعد غياب 12 عاماً. استبيانات الرأي العام أخيراً تسير جميعها في هذا الاتجاه.