Atwasat

الذين يستحقون التبجيل

محمد عقيلة العمامي الإثنين 26 سبتمبر 2022, 10:47 صباحا
محمد عقيلة العمامي

(هوارس تافت) هو شقيق (وليام هوارد تافت) الذي ترأس الولايات المتحدة الأميركية ما بين (1908 - 1913). هوارس هذا كان مديرا صارما لمدرسة ثانوية. ذات يوم أخطأ تلميذ في حق معلمه، ورفض أن يعتذر له، فأمر (هوارس) بفصله. كان التلميذ أبن أحد رجال الصناعة ـ وأيضا عضو في مجلس الشيوخ الأميركي. لم يقبل هذا الأب قرار الفصل، فأخذ ابنه إلى المدرسة، واقتحم مكتب المدير، وقال له بعنجهية:

- » كيف تجرؤ على فصله؟ ألاّ تعلم أنه ابني؟» فأجابه: «نعم أعلم .. ». فاستشاط غضبًا، وقال: «سوف أغلق هذه المدرسة إذا لم تأمر بإعادته في الحال!» فأجابه:
- » لا أظن ذلك، لأن هذه المدرسة ملك شقيق رئيس الولايات المتحدة الأميركية، ومع ذلك اعلم أنني أفضل أن تقفل هذه المدرسة على أن يكون من بين طلابها تلميذ أنت أبوه!».

أنا في الواقع، لا أعلم يقينا، إن كانت مدارسنا تحتاج لمثل هذا المدير في هذا الزمن! لأنني من الجيل الذي ابتدأ الدراسة الابتدائية سنة 1952 يعني مباشرة بعد الاستقلال، وجيلي يعي جيدا، أن مدراء مدارسنا ومعلميها كانوا لا يختلفون أبدا عن السيد (هوارس) مدير المدرسة، التي أشرتُ إليها، وكانوا متفانين بدرجة يصعب وصفها. كنت في ذلك الزمن الجميل، في مقعد واحد أنا وطيب الذكر الدكتور عبدالعزيز بوهدمة، كان حينها ابن والي ولاية برقة، ولم أشعر باختلاف والده عن والدي سي عقيلة، وهو يعد السحلب في الصباح الباكر، ويطوف بين مناضد المقهى المتواضع يقدم القهوة والشاهي و(البورتيلو) إلى زبائنه، وكان أحد تلاميذ الدور العلوي من المدرسة، وهو مستوى الصف الثانوي في مدرسة الأمير المرحوم نجيب مازق ابن رئيس حكومة ليبيا.

كان التلاميذ، كافة، سواسية في تحصيلهم، وفي اهتمام المدرسين بهم. كانوا من جيل مشهود له بالتفوق الدراسي، لأنه لم تكن ثمة فرصة واحدة ليسهل تعيينك، ورقيك في السلم الوظيفي إلاّ بالاجتهاد والتفوق وكان المدرسون متفانين مخلصين لعملهم، همهم أن نتفوق.

كنت كلما قفزت من شباك نحو الفناء أجد، أجد بالصدفة الأستاذ المرحوم رجب النيهوم أمامي! أو إن أقحمت في مشاجرة، أجده يرفعني من أذني، ويتوعدني: «بالله لولا سي عقيلة لطردتك.. » كان مقهى أبي في ناصية شارع نبوس وكان الأستاذ رجب النيهوم يسكن في الشارع نفسه! ولما انتقلت للدراسة المسائية، أصبح هو مديرها، ولا أذكر أنني غادرت المدرسة من دون رفقته، فلقد كنت حينها صغيرا، للعودة قبيل أو بعيد وقت صلاة العشاء، وذات مساء مع نهاية الحصة الأخيرة، كان أستاذها طيب الذكر معلمنا المرحوم حبيب الصابري، فاستوقفني حينما اندفعت مغادرا، ورنين جرس الحصة مستمر. لقد أمسكني من يدي، قائلا: «اصبرا! الأستاذ رجب غائب هذا المساء وطلب مني مرافقتك حتى قهوة سي عقيلة!». قلة فقط من جيلي لم يتموا دراستهم، أما البقية فأتمت تعليمها، بل ومنهم من وصل أعلى مراتب التعليم، وكان ذلك بفضل رجال التعليم في ذلك الوقت.

أذكر أنني بعد تخرجي تعينت مدرسا في مدرسة الأمير، وعندما ذهبت إليها برسالة التعيين، كان الأستاذ رجب النيهوم هو مدير المدرسة، واستقبلني بود وحفاوة، معتقدا أنني جئت لأمر يخص أحد الطلاب، ولما استلم الرسالة، فرح كثيرا وقام من مكتبه وجاءني وطوقني بذراعيه، سعيدا بي وقال: «والله وصار منك يا (عكروت).. ماذا حدث؟ اعتقدت أنك توقفت عن الدراسة. الحمد لله تخرجت.. وصار منك.. اجلس يا أستاذ» كان بالفعل سعيدا.

جيلي قام بفضل الله، وجيل حقيقي من معلمين مربين سخرهم لنا، يعون جيدا أن تلاميذهم أمانة في أعناقهم، ويعون جيدا أن قيام الأمة يتأسس بتفاني معلميها، وأن تقدم الأمم لا يتحقق إلاّ بالتعليم، والتعليم لا يكون تعليما إلا بالمعلم الجاد المخلص الشريف، الذي لا ينبغي مساواته بأي وظائف أخرى. المعلم هو المستقبل هو قيام الدولة، هو الذي لا ينبغي أبدا أن نتركه تحت رحمة أي قطاع آخر، دعونا نقف للمعلم وقفة تبجيل؛ لأنه صدق من قال أنه كاد أن يكون رسولا، وتأكدوا أننا حينها سنلحق بالبشر ونصبح جزءا حقيقيا فعالا من البشرية، ولا نظل هكذا متفرجين عليها وهي منطلقة نحو مكانة من أكرمهم الله وجعلهم خلفاءه في الأرض!