Atwasat

زمن «السح اندح إمبو»

جمعة بوكليب الأربعاء 07 سبتمبر 2022, 12:24 مساء
جمعة بوكليب

«للضرورة أحكام»، هذا ما يؤكده قول مأثور. والضرورة، في أحيان كثيرة، تدفع كاتباً صحفياً، بغرض توضيح فكرة، إلى التورط في عقد مقارنات، قد تبدو لكثيرين منا مقبولة لكنها غير مريحة.

في الأسبوع الماضي، على هذا الموقع، قرأت مقالة الصديق الكاتب عمر الككلي المعنونة «نُبل سالي روني والعسف الإسرائيلي». وبعدها، بأيام قليلة، قرأت إدراجاً لنفس الكاتب، على صفحته الفيسبوكية، يبدي فيه استغرابه من عدم التفات القرّاء إلى موضوع المقالة، لأهميته في الموقف من التطبيع العربي مع دولة العدو الصهيوني.

لذلك، عزمت أن أدلي بدلوي؛ ليس في ما يتعلق بموقف الكاتبة الأيرلندية، المذكورة في مقالة الككلي، ونبل موقفها الصريح من رفضها نشر روايتها في دولة العدو الصهيوني مترجمة إلى اللغة العبرية، وموافقتها على نشرها مترجمة إلى اللغة العبرية في أي بلد آخر، احتجاجاً على السياسية العنصرية التي تنفذها إسرائيل ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وما لحقها، تبعاً لذلك من اتهامها بمعاداة السامية.

بل حول رد فعل الكاتب عمر الككلي حول لامبالاة القراء.

في زمن ولى وانقضى، كان الباعة الجوالون جزءاً لا يتجزأ من الحياة في مدينة طرابلس وفي غيرها من مدن ليبيا. وكانوا، على اختلافهم، يمرون بمختلف المناطق والأحياء في المدينة القديمة منادين على بضاعتهم، من مختلف أنواع السلع، بأصوات عالية، لإثارة الانتباه إليهم، وبتنغيمات صوتية تختلف من واحد إلى آخر.

وما لاحظته صغيراً أن لكل بائع جوال زبائن خاصّين به، بمجرد سماعهم صوته، يخرجون إليه من بيوتهم لاقتناء ما لديه من سلع يشترونها.

الأطفال مثلاً يخرجون من بيوتهم جرياً لدى سماع صوت بائعي الحلويات، أو المثلجات. والنساء يتركن ما بأيديهن من مشاغل ويهرعن إلى الأبواب لدى سماعهن صوت بائع الأقمشة، أو مواد التجميل....وهكذا. أي أن هناك جمهوراً لكل بائع ولكل سلعة.
كاتب التعليق الصحفي لا يعرض سلعة، ولا يدور في الأحياء والشوارع منادياً.

ولكن ينشر، في صحف ومجلات، آراء وتعليقات وتحليلات تتعلق بشؤون محلية أو دولية، أو حتى شخصية في بعض الأحيان. وأن تلك التعليقات والآراء والتحليلات، بطبيعتها، لا يتوقع منها أن تستقطب اهتمام كل القراء، بل جزء منهم. أي الفئة من القراء ذوي الاهتمام بالمسألة التي تعرّض لها الكاتب.

ولأن الكاتب الصحفي يختلف عن البائع الجوال، فهو متعدد الاهتمامات، ومقالاته التي ينشرها متعددة ومختلفة، بتعدد مشاغل الحياة. في أحيان تجد مقالة منشورة إقبالاً واهتماماً من القراء. وفي مقالة تالية قد يكون الاهتمام أقل، أو تقابل باللامبالاة.

وحين ينشر كاتب صحفي مثل عمر الككلي مقالة حول التطبيع مع دولة العدو الصهيوني، يكون من الخطأ، في رأيي، التوقع بأن القراء سيقدمون على قراءتها، ويتبادلون حولها الآراء والتعليقات، وأنهم سيقدمون تعاطفهم إلى الكاتبة الأيرلندية ويدعمون موقفها الإنساني. فمقالة من تلك النوعية.

وفي زمن كالذي نعيشه، وأحوال كالتي نكتوي بنارها، من المتوقع جداً، أن تمر من دون إثارة ضجيج، بعد أن تكون قد لاقت اهتماماً من فئة محددة ومحدودة من المهتمين بالقضية الفلسطينية، والمناوئين للتطبيع مع العدو الصهيوني، في زمن أضحى فيه العلم الإسرائيلي يرفرف في عواصم عربية عديدة. وفي الوقت ذاته، فإن اهتمام تلك الفئة الصغيرة العدد، لا يعني ضمنياً ضمان التفاعل مع التعليق المنشور والمساهمة بتعليقات وردود... إلخ.

وإذا كان المبدأ التجاري يؤكد على أن الزبون ملك، فمن الممكن، بالتفاف بسيط وغير مخلّ، استعارة ذلك المبدأ التجاري في العلاقة بين كُتّاب التعليقات الصحفية والقراء، بتتويج القاريء ملكاً.

ولهذا السبب، تحرص الصحف والمجلات على أن تكون قائمة كتاب التعليقات بها متنوعة، أي من المتخصصين في مجالات شتّى اقتصادية وسياسية وعلمية وفنية.. إلخ لضمان استقطاب اهتمام أكبر عدد ممكن من القراء، وبما يكفل انتشار توزيع الجريدة، وبما يضمن غواية رجال الأعمال والشركات للإعلان عن منتوجاتهم وسلعهم. هذا من ناحية.

من ناحية أخرى، فإن كاتباً صحفياً مرموقاً ومحترفاً مثل الككلي، على درجة عالية من الدراية بالأوضاع والأمور التي بلغتها الأوضاع الحياتية والسياسية والثقافية وغيرها، سواء في ليبيا أو في غيرها من البلدان العربية، وخاصة في الموقف من القضية الفلسطينية، وما صارت تعانيه من ردود أفعال سلبية، أو لا مبالية من قطاع كبير من الشعوب العربية، نتيجة أسباب عديدة لا مجال هنا للخوض فيها، ليس من الصعوبة عليه بمكان وضع أصبعه على مكمن الداء، ومعرفة سبب العزوف أو اللامبالاة.

في السبعينيات من القرن الماضي، كنا حين نسمع المطرب الشعبي أحمد عدوية يصدح مغنياً «السح اندح إمبو» نستهجن جداً تلك الكلمات، ونتساءل عن معناها. وها نحن الآن نعيش في زمن لا يليق به سوى ذلك الوصف.