Atwasat

ليبيا... أزمة الحكومتين

أحمد معيوف الأحد 28 أغسطس 2022, 12:02 مساء
أحمد معيوف

مما لا شك فيه أن ليبيا مازالت سياسيا مكبلة باتفاقية الصخيرات التي أسس لها الصراع على الشرعيات الذي نتج عن حرب فجر ليبيا عام 2014، بمعنى أن الشرعية الوطنية سلبت تماما واستبدلت بالقرارات الأممية التي ضمنت هذه الاتفاقية في قرارات مجلس الأمن الذي يهيمن على مجريات السياسات الدولية، والتي وصل عددها الى 35 قرارا، بداية بالقرر 1970 لعام 2011 الذي أحال الوضع الليبي إلى محكمة الجنايات الدولية وقرار حظر الأسلحة وتجميد الأصول، حتى القرار 2647 الصادر في يوليو 2022 الذي أقر تمديد مدة البعثة الأممية.

وأشار فيها إلى مخرجات ملتقى الحوار السياسي ويرفض فيها الأفعال التي يمكن أن تؤدي إلى أعمال عنف ويؤكد على ضرورة العمل على الوصول إلى الانتخابات.

اتفاقية الصخيرات أنشأت ثلاثة كيانات سياسية محددة وهي المجلس الرئاسي ومجلس الدولة وأعاد مهام التشريع للكيان الثالث البرلمان، وللأسف هذه المهام كما حددتها الاتفاقية جعلت مهمة اعتماد الحكومة ومنحها التقة حقا أصيلا للبرلمان حسب المادة (13) من الاتفاقية، هذه المادة مكنت البرلمان من تعطيل الحكومة وخلق حكومة موازية لها مما أدى إلى الانقسام المؤسساتي اللاحق.

كان أول أسافين تعطيل المسار السياسي هو عدم اعتماد حكومة الوفاق من قبل البرلمان، وقد عبر عن هذا الأمر الدكتور أبوبكر بعيرة حين أشار إلى هذا الخطأ لاحقا.

وبالطبع، تعطيل اعتماد الحكومة عطل تنفيد العديد من المهام التي كان يمكن أن تبني الدولة مثل المادة (10) من اتفاقية الصخيرات، التي تلزم الحكومة بتشكيل لجنة مشتركة من النواب والدولة ومجلس الدفاع والأمن القومي للتوافق على قانون صلاحيات القائد الأعلى والمستويات القيادية بالجيش، والتي كان من الممكن أن تؤسس لجيش موحد، أهم أركان الدولة. والنتيجة الانقسام الثاني للحكومة الليبية (السراج  الثني) بعد الانقسام الأول زمن حكومة عمر الحاسي الغويل الثني.

تعثر رؤساء البعثة الأممية في ليبيا في التوصل إلى حل لأزماتها والعودة بها كدولة فاعلة، وكان آخر هؤلاء السيد الدكتور غسان سلامة ونائبته السيدة ستيفاني وليامز، فرغم الدور الذي قاما به بعد حرب الكانيات على طرابلس عام 2018، إلا أن استمرار دورهما اصطدم بحرب أبريل 2019 الذي عطل مشروع مؤتمر غدامس، وجعل البلاد مرة أخرى رهينة للقوى الأجنبية وعلى رأسها روسيا وتركيا عسكريا.

أدرك السيد غسان سلامة ونائبته السيدة ستيفاني وليامز تماما أن تأزم الحالة الليبية يعود إلى الدعم الخارجي للفرقاء السياسين، لذلك عمل غسان سلامة بالتعاون مع المستشارة الألمانية السيدة انجيلا ميركل على جمع هذه الدول في محاولة لتحييدها عن الصراع الليبي، وفي يناير 2020، جمع مؤتمر برلين الدولي حول ليبيا.

بدعوة من المستشارة أنجيلا ميركل، حكومات كل من الجزائر والصين ومصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا وتركيا وجمهورية الكونغو والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وممثلين عن الأمم المتحدة، بمن في ذلك الأمين العام وممثله الخاص في ليبيا والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية.

وتعهد قادة الدول المشاركة في ذلك المؤتمر بعدم التدخل في الحرب الأهلية الدائرة في ليبيا، وكذلك دعم حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على البلد. إلا أن هذه الدول لم تلتزم بتعهداتها، فقد استمر تدفق الأسلحة إلى ليبيا حسب تقارير المنظمات الدولية المهتمة بهذا الأمر.

انطلقت أعمال مؤتمر برلين 2 حول ليبيا، بمشاركة 15 دولة إضافة إلى 4 منظمات دولية. وشاركت الحكومة الليبية في فعاليات هذا المؤتمر للمرة الأولى. وجاء المؤتمر لتقييم التقدم المحرز في العملية السياسية منذ مؤتمر برلين الأول، بالإضافة إلى ملف الانتخابات الوطنية التي تقرر عقدها في 24 ديسمبروكذلك ملف إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية.

بناءً على قرار مجلس الأمن رقم 2510 (2020)، الذي صادق على مخرجات مؤتمر برلين الدولي حول ليبيا، قامت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بتيسير الجولة الأولى من ملتقى الحوار السياسي الليبي من 7 إلى 15 نوفمبر 2020 في العاصمة التونسية. جمع الملتقى 75 مشاركًا ليبيًا من النساء والرجال الذين يمثلون ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الليبي.

بدأت محادثات ملتقى الحوار السياسي الليبي بجلستين افتراضيتين واستمرت باجتماعات مباشرة بين أعضاء ملتقى الحوار. وقامت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة بالإنابة ورئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ستيفاني وليامز، بتيسير المحادثات بدعم من فريق من البعثة يمثل مختلف الأقسام، وكذلك فريق من مركز الحوار الإنساني.

كما قدم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الدعم التنظيمي والتشغيلي لملتقى الحوار السياسي الليبي. وفي ختام الملتقى، توافق ممثلو الليبيين على خارطة طريق لإجراء انتخابات وطنية وشاملة وديمقراطية وذات مصداقية، وذلك في 24 ديسمبر 2021. وهذا اليوم التاريخي، الذي سيصادف مرور 70 عاماً منذ إعلان ليبيا استقلالها في عام 1951، كان سيمثل ً فرصة لإنهاء المرحلة الانتقالية واختيار طريق جديد للمضي قدماً.

اتفق المشاركون على ضرورة إصلاح السلطة التنفيذية المنبثقة عن اتفاقية الصخيرات بما يتماشى وخلاصات مؤتمر برلين، وحددوا هيكل واختصاصات المجلس الرئاسي ورئيسا للحكومة منفصلا عن المجلس، وهذا هو أول التعديلات على هيكلية اتفاقية الصخيرات التي كانت تعتبر رئيس المجلس هو رئيس للحكومة أيضا، وكان المجلس مكونا من 9 أعضاء فقلص إلى 3 أعضاء فقط.

كما حددوا أيضاً معايير الترشح لهذه المناصب. وشكلت وثيقة الاختصاصات ومعايير الترشح والبيان الصادر عن المشاركات المخرجات الرسمية لهذه الجولة من ملتقى الحوار السياسي الليبي الذي اعتبر خارطة طريق للوصول إلى الانتخابات.

أعلنت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا قائمة المرشحين للمجلس الرئاسي ومنصب رئيس الوزراء، وتم اعتماد 24 مرشحا لعضوية المجلس الرئاسي، وقد تضمت القائمة العديد من الذين تسببو في الأزمة السياسية التي تمر بها البلد، فكانت إحدى القوائم مثلا تضم السيد عقيلة صالح كرئيس للمجلس (بعد أن تعهد بترك رئاسة البرلمان لشخصية من الجنوب) والسيد باشاغا رئيس حكومة، إلا أن قائمة المنفي- الدبيبة هي التي حظيت بالترشيح.

فشل قائمة عقيلة - باشاغا دفعت السيد عقيلة إلى التنكر لوعده بالتخلي عن رئاسة البرلمان، مما أثار جدلا حول التفكير في انتخاب رئيس جديد للبرلمان، إلا أن السيد عقيلة صالح تمكن من العودة إلى رئاسة البرلمان رغم ذلك الجدل ومحاولة إبعاده.

كلف دبيبة باعتباره رئيس وزراء القائمة المرشحة باختيار وزرائه، وكان المأمول أن يتم تكوين حكومة مصغرة تدير البلد وتشرف على ثلاثة ملفات رئيسية وهي الإعداد للانتخابات وتوحيد مؤسسات الدولة وتيسير حياة المواطنين، إلا أن تشكيل الحكومة لم يسلم من تدخلات متصدري المشهد السياسي، فشملت 27 وزارة و6 وزارات دولة لإرضاء هؤلاء وتمرير التشكيلة الوزارية، ولم تكن حكومة كفاءات كما كان يفترض، بل حكومة ترضية ضمت وزراء يمثلون شخصيات ذات صلة بالأجسام المهيمنة على المشهد السياسي، لهذا كان الفشل في الأداء متوقعا.

مر 24 ديسمبر ولم تنجز الانتخابات، وتعددت تفاسير الفشل، أرجعها البعض إلى قانون الانتخابات المعيب، والبعض الآخر إلى ترشح شخصيات بعينها، والنتيجة أن الانتخابات لم تنجز، وأسفر عدم إنجازها عن إشكالية جديدة تمثلت في تفسير البرلمان لخارطة طريق ملتقى جنيف، حيث اعتبروا أن فشل الانتخابات هو نهاية لحكومة دبيبة.

وعوضا عن محاولة معالجة أسباب عدم إنجاز الانتخابات، ومحاولة العمل على إحقاقها اهتم البرلمان فقط بتحميل الحكومة أسباب فشل الانتخابات، وبالتالي عملوا على إسقاطها من خلال الاتفاق على التعديل الدستوري 12 وتكليف حكومة جديدة، وأصبح الحديث عن الانتخابات آخر مشاغل البرلمان الليبي.

على أن الغائب في هذا الأمر أن دبيبة جزء من حزمة خارطة الطريق واتفاقية الصخيرات، أي أنه أحد المكونات الأساسية لحزمة التفاهمات وليس منفصلا عنها، وبالتالي فليس للبرلمان ولاية عليه أو على المجلس الرئاسي، وسحب التقة من الحكومة لا ينال من الوضعية القانونية لرئيس الحكومة، فأعلى ما يمكن للبرلمان فعله هو المطالبة بتغيير الحكومة فقط.

هكذا أدخل البرلمان البلد في أزمة جديدة لا تختلف عن الأزمة الأولى التي قسمت الحكومة ومؤسسات الدولة في العام 2016، وكما فشل اتفاق الصخيرات في الوصول بالليبين إلى إنهاء المراحل الانتقالية وتعيين برلمان جديد يمثل كل الليبين ويعالج ملف السلطة التشريعية.

فشلت مخرجات جنيف في إنجاز ما تم إفشاله في العام 2016 لتستمر أزمة تعدد مؤسسات الدولة والقضاء على أي محاولات جادة لإنهاء الانقسام وحل المشاكل التي تعاني منها ليبيا كدولة والليبيون كمواطنين في هذه الدولة.

ما زال المجتمع الدولي يتعامل مع حكومة الوحدة باعتبارها الحكومة الشرعية، وحتى الدول التي سارعت بمباركة تشكيل حكومة الاستقرار، كما سميت، تراجعت عن مباركتها ولم تعلن اعترافا صريح بهذه الحكومة.

وكما أن حكومة الوفاق لم تكن حكومة وفاق وحكومة الوحدة عحزت عن أن تفرض سيطرتها على كل التراب الليبي، فحكومة الاستقرار أسقطت كل استقرار ممكن قبل أن تستلم مهاهما، هذا إن تمكنت إن تستلم هذه المهام.

الإشكالية الحقيقية هي في غياب المرجعيات التي تهيمن على تفسير القوانين واللوائح الصادرة.

وبالتالي فكل يفسر ما يحلو له حسب مصالحه ورؤيته ضاربا بعرض الحائط رؤية خصومه وتفسيراتهم، لذلك أصبح الخلاف يتعمق كلما حدث أمر ما أضر أو سحب مصالح فريق من الفرقاء. مخرجات جنيف مثلا هي منتج أممي، حيث صاغ خارطة الطريق ملتقى الحوار الليبي بالتعاون والتنسيق مع البعثة الأممية، وضمنت في ملفات مجلس الأمن الدولي، وبالتالي فإن تفسير هذه الخارطة هو حق أصيل للبعثة الأممية وملتقى مجلس الحوار، والخوض في تفسيرها من قبل أطراف الصراع هو محاولة لتأزيم الموقف ليس إلا، وبالتالي عبث بمستقبل البلاد وسد لمنافذ الحلول الممكنة.