Atwasat

عبدالحميد النيهوم: السنديانة في وجه الريح

سالم الكبتي الأربعاء 27 يوليو 2022, 12:17 مساء
سالم الكبتي

(لو تدرك الأجيال سر قتامه .... غسلته بالدمع الهتون سخينا)
الشاعر السوداني محمد أحمد محجوب
 
.. وذلك السنديان الشامخ أبداً على الطريق يشكل منارات من الخير. هم رجال العدالة في ليبيا. حين يغيبون تغيب معهم العدالة والحريات وتنقطع خيوط الخير أيضاً. كان أولئك الرجال في ليبيا الناشئة حديثاً تلك الأيام والخارجة من عهود الظلم والاستبداد.. كانوا بلا استثناء ينتقون مثل الدر الفريد. كانوا ينتمون إلى عائلات وطنية. وكانوا هم أيضاً في الغالب أصحاب تاريخ وطني ناصع البياض كالثلج أيام الشتاء. ويحملون فوق أكتافهم في الوقت ذاته قيماً وطنية وانتماء لا حد له.. للوطن.. لليبيا. كان هناك حماس للإخلاص من أجلها. وكانت العدالة ركناً وطيداً ظلوا يحافظون على بنيانه خشية التداعي والانهيار.

جيل العدالة شكل في ليبيا تلك الأيام في مضمونه العام والخاص أجيالاً متلاحمة ومتداخلة مع بعضها دون أية ثغرة تعتريها. أجيال شامخة شموخ السنديان في وجه الريح أعطاها الوطن ثقته الغالية في أن تتولى أشد المناصب حساسية.. تولت القضاء وأعمال النيابة والمحاماة وتحرير العقود. كانت صوتاً للحق في ليبيا. تعلي من شأن القانون الذي سياجه الدستور والعدل. كانت تتسم بالنزاهة والعفة والتجرد. وهبت نفسها ووقتها للدفاع عن حقوق الناس وبعضهم دفع الثمن باهظاً. عانى من النقل التعسفي أو الإهمال.. وهكذا.

من هذه المدرسة الوطنية الليبية في العدالة والحق كان عبدالحميد النيهوم سنديانة على الطريق. من جيل هؤلاء النبلاء الرفيعي الشأن والمقام. كان كما عرفه الجميع شجاعاً يحمل المسؤولية ويخاف على الوطن أن يناله الضياع في ضياع العدالة وصون الحقوق بين الأفراد دون فرق أو محاباة.

في بنغازي الصغيرة التي تتسع بالود وتضيق بالكراهية ولد ونشأ ودرس مراحله التعليمية الأولى وتشكلت خطاه الثقافية مع بعض أبناء جيله أواخر الأربعينيات التماساً لدرب يجمع الوطن في التغيير نحو الأفضل والتنوير من مواقع الإظلام. كانت خطاه تلك الأيام تعبر الدروب بارتعاشاتها وإرهاصاتها وأحلامها. وكان هناك أمل. الثقافة والقراءة والنقاش سبيل إلى النهوض والانتماء. وكان عبدالحميد بين هؤلاء جميعاً يتميز بالجسارة. وعبارة (الشدينتي) تغلب عليه بين الرفاق. يهزأ بالمصاعب ويسخر منها ويحلم معها بالغد الأفضل. أصدقاء شكلوا طليعة في المدينة تميزت بالحراك والوعي المبكر دون أن يضيع منها الوطن: عبدالمولى دغمان وأرحيمه شتيوي ومحمود بوستة والشريف بن عامر ومحمد معتوق وسليمان الوداوي وفتحي جعودة ومحمد المنقوش وأبوبكر الشريف ومحمد الفيتوري ومصباح العريبي وإبراهيم حماد.. وغيرهم. جيل لم يتنكر لوطنه أو لسابقيه من الرجال سعى للإصلاح في نكران للذات. ثم تفرق الصحاب بحكم الظروف والأيام. وطوت الأعوام تلك الذكريات لكنها ظلت جزءاً من علامات المدينة ومعالم الوطن وتظل في حاجة إلى توجيه العناية بالدرس والتحليل والتوثيق. تفرق الصحاب ليلتقي أغلبهم في الدراسة الجامعية في القاهرة عقب الاستقلال نهاية العام 1951. كان الوطن يحلم بطموح أبنائه ويشجعهم على الانطلاق والمبادرة. وطن يفتح ذراعيه للجميع. وكان الشباب معقد الأمل في ذلك كله. ويظل الوطن يحلم من خلال تطور خطى تلك الأجيال رغم عثراتها وخيباتها. هناك في القاهرة احتضنت الدولة الوطنية أحلام ذلك الجيل ولم تقف حيالها صدا أو جحودا أو عسفا. كانت تأخذ الأمور بالأبوية والتعاطف مع تلك الأحلام دون أن تحبسها أو تغلق عليها الأقفاص رغم كل شيء ورغم ما يحدث أحياناً من أخطاء وتجاوزات. هناك في القاهرة والوطن يجتاز عتبة الاستقلال ويرنو إلى الشمس بصعوبة بالغة التقت ليبيا من خلال طلابها في جامعات القاهرة وإبراهيم (عين شمس) والإسكندرية. لقد غدت البعثات الطلابية تصل وتدرس وتواصل حلمها بلا انقطاع.

في العام 1953-1954 يلتقي عبدالحميد النيهوم بزملائه في الحقوق.. أحمد بورحيل وعبدالحميد البكوش وبشير النجار وكامل المقهور وإبراهيم الغويل وعبدالوهاب الساقزلي ومحمد بن يونس ورجب الماجري وعبدالحميد الرعيض ورمضان رقص وعبدالمجيد الميت ومنصور رشيد الكيخيا وعامر البكوش.. وغيرهم. تختلف الجامعات والمراحل الدراسية لكن تجمعهم الحقوق.. الفقه والقانون والدستور والمبادئ اللازمة لترسيخ أسس العدالة في الدنيا.. وبالطبع الزملاء الآخرون في الكليات الأخرى.. الآداب والاقتصاد والزراعة.. وتجمعهم مع هذه الاختلافات والفروقات ليبيا الوطن والمكان والزمان دون استثناء. وهناك يجمعهم أيضاً نادي ليبيا الثقافي ومجلته صوت ليبيا ونشاطاته في المحاضرات والندوات والحوارات والتجاوب مع أصداء الوطن القريب وقضاياه.. الوطن الذي يعيش في القلب. في مقال عنوانه (وطنك) كتب عبدالحميد النيهوم في صوت ليبيا في عددها السابع الصادر في مارس 1954 عبر نقاش له مع أحد رفاقه مخاطباً وواصفاً له رؤيته لذلك الوطن: (هو وطني حين عشت فيه صغيراً غافلاً وكافحت فيه شاباً أنزوي إلى أركانه.. أتجرع الدمع والعرق والهموم. إنه وطني بمقدار تلك اللقيمات التي أمسكت بها أمعائي وحفظت بها قواي وبمقدار تلك الجرعات من الماء التي أبقت على كياني وحياتي. إنه وطني حين سعدت ونسيته وحين شقيت وتذكرته. إنه وطني حين تلقاني وحين ودعني بدموع الفرح في تلك وضحكة السخرية في هذه. وبهذا المقياس.. مقياس لقمة العيش وجرعة الماء ومتر الأرض الذي أنام عليه كانت ليبيا وطني وستكون مصر أو الأردن أوتونس وطناً لي حين تتوفر هذه المقومات وتتاح هذه الأسس..).

وتلك الأيام [كانت] تجمعه المساعي التي تمتلئ حماساً وحركة مع زملائه ويؤسسون العام 1952 نادي الشباب الجامعي ثم نادي الطلبة ويعقدون الاجتماعات ويناقشون الأنشطة التي يعتزمون القيام بها ويشكلون مجالس لإدارتها وتنظيمها ويتولى النيهوم القسم الاجتماعي في هذا المجلس. نشاط وثقافة لبسط الوعي وسط المدينة وبين ناسها. شباب يعمل ويحترق. أين منه شباب اليوم الذي يبتعد عن مناهج التربية الوطنية وخدمة المجتمع والآخرين والتطوع. جيل يتجه خاوي الروح نحو الماديات والمصالح الضيقة. جيل يختلف تماماً عن الأجيال التي مضت انتماء للوطن وحرصاً عليه.
بدأت الدولة تستقبل أبناءها الخريجين المتعلمين ودفعت بهم لتولي المناصب. سعت للتلييب وتوطين الخبرة الليبية. عاد عبدالحميد النيهوم العام 1957. تولى منصب وكيل نيابة. في بنغازي. كان مقر المحكمة في شارع عمرو بن العاص قرب منزل العائلة المقابل في شارع نبوس. العائلة احتوت الأستاذ رجب.. الأخ الأكبر المربي والمعلم وناظر المدرسة لاحقاً وأب بكر الطالب في المحاسبة بالجامعة الليبية الوليدة. أسرة لم تبخل بعطائها لمدينتها ووطنها. كان عبدالحميد صوتاً للعدالة الحقة. لم يماش ظلماً أو يعنُ له أو يخشاه. وذات مرة.. ذات قضية شهيرة العام 1962 نافح عن حق مظلومة في وجه مسؤول كبير. وكان جزاؤه التعسف والنقل إلى العدل في فزان. 

والعدل من أيام عمر ضائع في البرية لكن المخلصين لا يتوانون في الصدع به. ثم حين كان محامياً تقدم للترشيح لعضوية مجلس النواب العام 1964 ومنع من هذا الحق مع عديد من زملائه. شرخ في الحقوق وتزوير في الضمائر والنفوس.. وما هكذا تسير البلدان. ولكن !

لم يتوقف عطاؤه. أثمر السنديان بالشموخ مثل ذلك الذي في جبالنا. أصدر العمل العملاق مع زميله الأستاذ محمد بن يونس العام 1966 عن دار ليبيا موسوعة التشريعات الليبية. تضمنت مختلف المراسيم والقوانين والقرارات منذ عهود الإدارتين البريطانية والفرنسية في ليبيا. بهذا العمل التوثيقي والقانوني العظيم لم تضع قوانين ليبيا وعهودها ومواثيقها بفضل هذه الموسوعة المرجعية المهمة التي لا تخطئها العين الفاحصة والخبيرة. العلم والتوثيق والقانون والحرص اجتمعت كلها في هذا العمل الكبير.

وفي نادي الهلال كان للأستاذ عبدالحميد تلك المكانة الرفيعة ناشطاً وعضواً بمجلس الإدارة ونائباً للرئيس ورئيساً له. لاحظت حرصه ودقته ونزاهته عندما كنت عضواً معه لعدة سنوات وسكرتيراً ثانياً في ذلك المجلس. وظل النادي يستفيد من خبرات هذه القامات القانونية وشهد أيضاً عضوية ورئاسة كثيرين آخرين في نفس المجال منهم الأستاذان عبدالحميد الرعيض وعلي بوهدمة. وقت أن كانت الأندية يغمرها العرق والحماس والود قبل أن تغرقها المحلات والصفقات على امتداد ليبيا. وكانت الجلسات عامرة في النادي مع منتسبيه في وجود الأستاذ وأمثاله من الطليعة الواعية بدورها في المجتمع والوطن. ثم عندما اختلطت الأمور وضاعت القوانين والعدالة افتتح مكتباً خاصاً لتحرير العقود وتوثيقها وفي الأعوام الأخيرة غلبه المرض وظل رهين البيت بعيداً لا يبارحه. وربما للأسف نسيه الكثيرون في لهاثهم على الحياة إلى أن غادر بالأمس القريب في سكينة وهدوء.

.. وليبيا تفقد أمثال هؤلاء على الدوام. تفقد في غيابهم العدالة والدفاع عن الحقوق. تفقد لوحة ذهبية لا يعلوها صدأ الزمن. لكنهم يظلون السنديان الشامخ في وجه الريح الذي يمتد على أكتاف الطريق.
وداعا، أستاذنا عبدالحميد النيهوم.