Atwasat

القيقب

سالم العوكلي الثلاثاء 26 يوليو 2022, 10:27 صباحا
سالم العوكلي

ولِدتُ في (لالي) أعلى الجبل الأخضر، القرية المتناثرةُ خيام الشَّعر فيها حول بيت إيطالي قديم، وعين مياه عذبة يسيل شرابها في قنوات ترابية إلى سوانٍ صغيرة محاطة بأشجار التين الشوكي في وادٍ خصيب، مقسمة على فلاحين يزرعون فيها الخضروات، وبعض أشجار الكرموس والعنب والخوخ قرب الساقية. وكانت أمي تربطني بكلام غير الكلام العادي عبر مهاجاتها للرحى بأغانيها التي تحيل كل مكونات الأداة إلى رموز للتعبير عن شجونها، وشكّلتْ تلك التراتيل الليلية علاقتي الأولى بالفن المصاحب لأداة العيش الضروري في حياة الكفاف اليومي في مكان وزمان كل ما فيه يدور. فراشات الليل تدور حول ضوء الفنار وظلالها تتراقص على وجوهنا، القرص الحجري يدور بالأغاني التي تدور حول المعنى، الخيول فوق جرن السنابل تدور، والمغزل يدور في اليد، وعلى ساق الأنثى يدور المبرم الخشبي ليظفر الصوف خيوطا لا تنفك تدور في المسادي التي منها يُصنع البيت وفرشه، الأرغفة المدورة تدور في التنور المدور، وأمي تدور كل صباح حول البيت لتشد الرمام أو ترخيها نزولا عند رغبة الطقس، وأبي يدور بقطيعه في الهضاب المتاخمة، وكل نجع يدور خلف المواسم بحثا عن الكلأ، وكانت الغناوة ــ سواء أكانت مهاجاة للرحى أو قذارة تصاحب حفلات جز الصوف، أو غناوة علم تختزل أحزان الفراق أو بهجة اللقاء ــــ تدور في عقيرة المغني الذي يبدأها بالخاتمة ثم يعود إلى بدئها ثم يربطها بالوسط أو ما يسمى القفلة، وفي الشكل والمعنى تتلمس الدائرة كي تفضي إلى مُرسَلِها، متناغمة مع دورة الحياة التي تبدأ ببذور تلقى في التراب الرطب في انتظار دورة الفصول لتعود بذورا للطحين تلقمها أمي في عين الرحى وهي تعد وجبة اليوم التالي.

في لالي افُتِتحتْ المدرسة الابتدائية الجديدة العام 1966م، وفيها كانت علاقتي الأولى مع قلم الرصاص الذي كان يرتعش في يدي من البرد والخوف، فما استجد لم يكن فصل به دُرْجٌ وسبورة وكراسة فقط، ولكن تلك العصا في يد المعلم التي كانت تطغى على ما سواها من أثاث التعليم.

كنا أربعة تلاميذ وأربع تلميذات، تنفث أفواهنا الصغيرة بخار الصقيع أمام لوح السبورة التي يضيئها الطباشير بحروف الأبجدية الأولى، وأذكر جيدا مشهد طلاب فصلي وهم يرتعشون من أقدامهم حتى رؤوسهم حين دخلت سيدة بشعرها المرسل على كتفيها، ترتدي تنورة سوداء بالكاد تغطي ركبتيها، وحذاء أسود بكعب عال ومدبب كنا نسمع صوت طرقاته في الممر، كانت السيدة فتحية عاشور مديرة التعليم بمحافظة درنة، وهي التي أمرت المعلم ومباشر المدرسة بأن يوقدا كانون النار في الفصل طيلة أيام الشتاء حين رأت ارتعادنا في الفصل من الصقيع. أخذت تربت على رؤوسنا وتزيح بنفسها الأدراج الملاصقة للجدار البارد إلى وسط الفصل. وقتها كان مسؤولو التعليم والمفتشون دائمي الزيارة لمدرسة لا يتجاوز عدد الطلاب بها العشرة رغم قلة المواصلات وصعوبة الطريق، وكانت المدرسة تقدم لنا كل شيء، الأقلام، الكراسات، الكتب، ووجبة الإفطار، مجانا، وما كان على أهلنا سوى أن يلبسونا ما أتيح من قماش، ويصنعون لنا حقائب من بقايا أكياس الطحين، ويطلقون الأدعية بالنجاح خلفنا.

شكّلَ المعلم القاسي؛ الذي يسلمنا لنزواته أهلنا ويباركون ضربه لنا، أحد تجليات السلطة الأبوية التي لا يمكن التساؤل بشأنها أو الجدال حولها، لأن الضرب نهج تربوي في ثقافتنا تدعمه الكثير من المقولات الاجتماعية التراثية والدينية التي كنا ندرسها في حصة التربية الدينية (علموهم على سبع واضربوهم على عشر) وفي العقيدة الشعبية الضرب في صالح الأطفال، لكن دخول تلك المرأة الأنيقة والجميلة إلى فصلنا، وملاحظة الخوف الذي أعترى المعلم، شكّل أيضا هشاشة هذه السلطة الأبوية وتصدعها أمام عيوننا الطفولية المذهولة. ارتبطت لدي تلك المرأة بالدفء، غير أن هذا الارتباط ليس جديدا، باعتبار أن أمي التي كانت تصحو من الفجر، لطالما انبثقت من أصابعها شرارة النار الأولى التي كانت تُقوم أصابعنا المنكمشة بفعل البرد كل صباح كالح، لكن الجديد أنها شكلت لنا إمكانية انهيار السلطة الذكرية للمعلم أمام الحنان حين يكون مرفودا بالمؤسسة والقانون، وبالأنوثة الواثقة من نفسها.

في العام التالي انتقلتُ إلى مدرسة القيقب الابتدائية، وكان المشهد هذه المرة مختلفا، فالقلم ثبت بعض الشيء في يدي، والزحام كان أكثر .. طلاب وطالبات ، فصول ممتلئة بأطفال من الجنسين، وأولاد أكثر جرأة وشقاوة، ومعلمون كثر، ومباشر المدرسة هذه المرة الضالع في علاج الكسور عبر جبيرة من العِصي، كان نحاتا دقيقا لعصي المدرسة التي يصنعها من أغصان الزيتون ويهديها للمعلمين في كل عيد للمعلم، تلك العصي النحيلة التي كانت ترتفع وتهبط كل وقت على أيدي الطلاب الطرية، وكم كنت استغرب ربط المعلم في الدرس بين الزيتون والسلام وأنا أرى رعب الغصن القاسي في يده. كان الضرب فضيلة التعليم ورهبته، ومن يشكو لأهله عليه أن يكون جاهزا لعقاب آخر، وسادية بعض المعلمين الأوائل صارت محل إطراء حتى الآن، وبذا كان الشق التربوي هو تدريبنا على الخنوع التام والخوف، لنكن جاهزين للتلقين والحفظ والاسترجاع.

في الصف الرابع كان أحد المعلمين لا ينفك يمرر سؤالا بين الطلاب مع صفعة جاهزة لكل من لا يستطيع الإجابة. صفع أربعة طلاب قبلي وعندما وصلني السؤال أجبتُ رغم أني لم أكن أعرف الإجابة قبل قليل، وأنا على يقين أن الذي ألهمني الإجابة هو الخوف وحده، وربما الهرمونات التي تدفقت في جسدي بسبب الخوف هي ما ألهمني الإجابة، فالخوف من الظواهر الطبيعية هو ما صنع الأساطير والخرافات لترويضها لسلطة الحكي والسارد، وهذه المرة يرتبط لدي الخوف بالإلهام، ليس ارتباطا شرطيا لكن ثمة ما يحصل في فسيولوجيا الجسد ضمن تقنياته الدفاعية الغريزية، والأمر مازال معقدا بالنسبة لي. أما المعلم صالح عبدالحميد العوكلي، فكان صاحب أحب الحصص إلى قلوبنا وعقولنا، وكان تربويا بالفطرة، فهو لم يدرس أي مناهج تربوية باعتباره خريج المعهد الزراعي المتوسط، حصصه حاشدة بالضحك والفكاهة وتحويل المنهج إلى مادة مرحة. كان كلما يذهب إلى درنة التي تبعد عن القرية 70 كم، يعود إلينا بحكايات عن لذة الطعام هناك وعن بناتها الجميلات وأسمائهن الدلع التي يرددها بشكل موسيقي، وكلما استعصت علينا معلومة في المنهج يحيلها فورا إلى بيت شعري عامي (شتاوة) نتغنى بها حتى نحفظها، وعادة ما تتحول الحصة إلى رقصة كشك طلابي، نصفق ونردد الشتاوة المؤلفة من معلومة في المنهج، مثل (هبّن شوري أرياح قبالي .. من النيجر وتشاد ومالي) التي نظمها فورا بعد تكرار إخفاقنا في الإجابة عن سؤاله في مادة الجغرافيا: من أين تهب رياح القبلي على ليبيا ؟. كما كان يستلهم أمثلته في النحو من نافذة الفصل فيحيل أي مشهد يراه إلى جملة لشرح الفعل والفاعل، والجار والمجرور، وربما هو من حببني في هذه المادة التي ما زلت ألم بها رغم تخصصي العلمي.

كان تحويل المنهج الجامد إلى إيقاع شعري يسهل التغني به بدايةَ دغدغة الشعر لمخيلتي، ومنبع غبطتي بكل ما يحيل الجامد إلى أغنية. وبعدها بسنوات طويلة قرأت رواية «الحياة هي في مكان آخر» للروائي التشيكي، ميلان كونديرا، وهو يصف طفولة الشاعر جاروميل الذي أصبح شاعرا كبيرا، حيث بدأت دغدغة الشعر له عندما كان يصب شتائمه على محيطه في مقاطع موزونة ومقفاة (مثل الشتاوة) ويلقيها في وجه أقاربه فيضحكون، واكتشف سحر الشعر لأنه عندما كان يغضب ويلقي شتيمة نثرية مباشرة كان يُوبخ ويعاقب بشدة.

في القيقب، كان جبرين الوراد، وراد القرية، يدور في طرقاتها بحماره وبراميل الماء وهو يترجز بأشعاره الساخرة والإباحية على الملأ، وكان الجميع يضحكون ويتسامحون مع خروجه عن المألوف وكأنه يعبر عن مكابيتهم والمسكوت عنه فيهم. كنت أفكر لو أنه قال هذا الكلام نثرا ودون وزن أو قافية فهل سيقابل بنفس التسامح والضحك؟ أم سيكون مجرد رجل بذيء يسير في الطرقات خلف حماره؟. ومن هنا تسرب لي سحر الشعر عندما يروض كل السلطات للحظة مروقه وتمرده، أو تحويل تلك الحصص الجامدة إلى وقت للمرح ، إنه الأداة الأكثر تعبيرا عن المسكوت عنه دون استفزاز المحيط، بل وجني نوع من الغبطة المواربة تجاه مروق الفن ونبالة تسكعه على تخوم التحفظ والحكمة.