Atwasat

نفق المثقف

عبد الكافي المغربي الثلاثاء 14 يونيو 2022, 10:32 صباحا
عبد الكافي المغربي

لا يعد Ernesto Sabato بين الأدباء غزيري الإنتاج، وليس معروفا إلى جموع القراء بقدر ما طبقت شهرة إخوانه من أدباء أمريكا اللاتينية آفاقا بعيدة. لكنه عوض عن ذلك بتحفته الفلسفية الأدبية «El Túnel» باعتبارها، فوق قيمتها السيكلوجية وعمقها الوجودي، رواية تصور اللبس والتيه الذين يضيع فيهما المثقف والمبدع إذ يتعرف في رحلته الإبداعية أو مشواره المعرفي على ما يفسر له منطقية موقفه في الانسحاب من يومية الحياة المعاشة، والتسامي فوق طاقات «الغابة» المتغلبة على الحشود الضخمة المُسَيَّرة.

وإذا كانت الصورة النهائية التي اتخذتها الرواية وجودية كئيبة، تمد بتطلع استلهامها إلى كامو أكثر من سارتر، فذلك مما يتفق ونظرة الأديب المتشائمة إزاء المبدع كونه لا يفترق عن جموع البشرية المغضوب عليها من قِبَلِه، بصفته راويًا مضطربا وغير جدير بالثقة.

قد تقاسمت شيطانية تدميرية وربوبية إبداعية وجدانه وتعاظم على غير العادة عند غالبية الناس الصراع بين الكيانين لنقمة على قسمة كل منهما، وأفضى هذا الصراع إلى خروج الفنان والأديب من نفقه الموحِش والتطلع إليه من مساحة فسيحة من وعيه الساطع، كي يعود إليه في آخر الأمر، في افتتاحية الرواية.

كتب خليل الحاسي قبل أعوام طويلة في هذه الجريدة مقال أدب السجون، وبدرجة من العمق مغايرة في درجة العمق تلك وحسب سخافة سطحية كتبتها في 2018، يدعونا قلقنا الحالي واطلاعنا المتسارع إلى وصفها كذلك، تربع المثقف على عرش التميز متعليا، واستشهد حتى لتبدو أحزان الملك لير ومشاريعه العابرة لأجواز الخيال بالقياس إلى مثقفنا العربي ضجر وتباكي طفل منعم.

وإذا كانت الفاشية ترحب بتصوير شهادة الزعماء ومأساة تقويضهم، فنكبتنا تتلخص في الإيمان المطلق الذي يطلبه مثقفنا النشط من الحشود الضخمة، ويأس مثقفنا المنزوي في مكتبه من إمكانية حشد وتعبئة الأغلبية بخطاب هو «عين العقل» على رأي حسن دهمان في قصة نجيب محفوظ.

"الذاكرة بالنسبة لي أشبه ما تكون بنور باهت يضيء متحفا قذرا للعار" يسارع الفنان خوان بابلو كاستيل راوي Sabato إلى طرح فلسفته المعقولة تماما والاستطراد في توضيح اشمئزازه من تعفن وقذارة البشرية فيما تتقدم الرواية.

 في هذا العالم الذي يجبر فيه عازف بيانو هو صفوة الصفوة على يد قرود شرهة أن يلتهم فأرة حية لأنه اشتكى الجوع في معتقل يمكن أن نفهم أسباب انطواء من كتبت له النجاة من أذى هذه القرود في نفقه الآمن حيث يكون له أن يصيبها بأذى التنكيل اللفظي وما إلى ذلك من الحقارات المماثلة.

ولا يني كاستيل ينطق بما هو كامن في دخيلة الأكثرية من المثقفين الذين أماتوا في مناسبة "الجثث" التي تجوب شوارع بنغازي مطمئنة لجهلها، في موقف لا أميز فيه فارقا عن ندم كاستيل لعدم اغتنام الفرصة لقتل ستة أو سبعة، أو ربما أكثر، ممن أغضبوه حقا.

لا شك أن رواية Sabato الرسام والبروفيسور والأديب الأرجنتيني عظيم الموهبة وجودية، لكن بصفتها كذلك، وباستثمارها لثيمات العزلة الإنسانية والخيار البشري تتطلب راويا متفردا، مالكا لزمام التعبير عنها، أي إلى راوٍ مطمئن لمعرفته.

ونحن هنا نلتمس سبيلا طرقه أديبنا الأكبر نجيب محفوظ في رائعة الأدب الوجودي «اللص والكلاب» أكثر من ثرثرة فوق النيل التي يكثر الاستشهاد بها في صدد حسابات المثقف عندما يشتد الوعي بمعضلة وجوده هو، هو وحسب، بمنأى عن التقلبات السياسية التي أخرجت ثرثرة فوق النيل.

بابلو كاستيل هو ذلك المثقف الذي يتملكه هوس التصرف "بمنهجية وفق عادته"، هو نفسه الذي يعتبر العميان زواحف باردة رطبة مثيرة للاشمئزاز، والأطفال أقرب إلى أن يثيروا فيه مشاعر الاحتقار أكثر من الحنان لأنه قد قدر لهم أن يكبروا ويلبسوا تلك الوجوه الشرهة الجشعة المستهترة التي يبغضها الرسام لكن يجدها أينما قلب نظره.

وإذا كان الأطفال أدعى للاحتقار فكذلك ماريا أريبارني، الفتاة التي هيء وقوفها عند هوامش لوحة بابلو كاستيل إليه أنها قد فهمت سر لوحته. الرواية هي قصة خيبة أمل الرسام إزاء المرأة التي أحبها لأنها بدت له شريكا روحيا معززا للجانب الربوبي الخلاق من نفسه، وخيبة الأمل نتاج محاولة امتلاك كائن بشري مستقل، يعد الحب بالنسبة إليه مراوغة فزع وجودي لخلق معنى في عالم البهيمية والوحشية الطبيعية، حيث يمكن للحب أن يلتبس بالشفقة أو بأي شعور آخر.

إن بابلو كاستيل في كابوس الإنسان الطير يعاني من عزلة المثقف والمبدع الذي يكون مثل غريب كامو غريبا، عصيا على الفهم. ولو أن هذه العزلة كانت تبرر علياءه وكفى لما كان ثمة مبرر لاستشعار الخطر، غير أن هذه العزلة عوضا عن مواصلة التطهر الخلاق استسلمت لاندفاعة شيطانية هدامة.

في هذه الرواية التي يحتل فيها فن الرسم موقعا مركزيا ينبغي إيلاء عناية لمقابلة ثيمات الإبصار والعمى. في أثناء لقاء بابلو الصادم مع زوج ماريا الأعمى يحاول المكفوف إجلاء غموض ماريا الذي ليس بغموض إطلاقا: "هكذا هي ماريا، تحير الكثيرين نزواتها المتسرعة، تقوم بتصرفات اندفاعية لا تغير من الواقع شيئا." يردد بابلو بعد خروجه من شقة الضرير ونزوله المصعد "أية ملهاة كريهة هذه؟" صارفا نظره الحاد ومنهجيته الأثيرة ونزعته التحليلية عن مفتاح الرواية: "لا تغير من الواقع شيئا".

تعمد الأديب المفرط في رصانته تعذيب قارئه بعدم التفسير، فإن مطالب عصر ما بعد الوجودية واضمحلال الأدب بنهايات مشفوعة بتفاسير تستنفد نفسها تبدو رغبة غير شعورية لتفادي حقيقة عبوديتنا لكون ممتنع عن صب نفسه في قالب استيعابنا التفسيري.

فحين يقرر كاستيل أخيرا أن يقبل من ماريا حبها هكذا، كما هو، بلا شروط، حتى لا ينهار في نفقه تخشى هي أن يعود في لقاء الساعة الخامسة إلى تعذيبها بمطالب احتكارها واستنتاجاته المعقولة تماما لكبوات بساطتها، فتقرر في تصرف اندفاعي أن تقلب لمعاناة الفنان المبدع ظهرها ميمة وجهها شطر مزرعتهم حيث يقيم ابن عم زوجها، السيد "التافه الفاسق الأحمق السافل".. "ذلك الفاجر، ذلك الداعر" هونتر.

وتكون القشة التي قصمت ظهر البعير تأخر إنارة المصباح لمخدع ماريا أريبارني.

اعترف خوان بابلو كاستيل منذ أول فصل في سرده لقصة علاقته مع ماريا بأنه سيحاول التجرد في سرد الوقائع وأنه لن يتردد في الكشف عن غروره الأحمق وسقطاته الأخلاقية بصفته إنسانا. وهو بالفعل يكشف عن تردده المزمن وتسرعه الذي لا شفاء له: "الرسائل الهامة يجب الاحتفاظ بها يوما واحدا على الأقل، حتى نتبين بوضوح ما قد يترتب عليها من نتائج."إنه يقر بعد إحالته لإبداعاته الفنية في مرسمه مِزَقًا أنه كان في جوهره "بركانا على وشك الانفجار" كان "يكمن وراء هندساتي، ووراء الناحية الفكرية.

" الناحية الفكرية، الهندسات التي يشرف عليها عقل محكم شغوف بالتحليل لم تبصر واقع أمرها. Maria's affair نفض بعنف الفنان ليعي باستثنائه في نفق مظلم موحش وأنها "تنتمي إلى العالم الواسع، إلى عالم الذين لا يعيشون في الأنفاق، والذي لا حدود له" التي "وبدافع من الفضول، اقتربت من إحدى نوافذي الغريبة، وواجهت مشهد عزلتي الأبدية."

وفي مناقضة صارخة لهذا الوحي ينتهك بابلو بسكينه الكبيرة بسرعة محمومة وعمق أشد جسد ماريا المطعونة لأنها لدى تلقيها أول طعنة "نظرت إلي بألم وضعة"، إن الفنان المبدع، وعلى نحو ليس مغايرا تماما للسيد Basil Hallward في "The Picture of Dorian Gray" يطالع في عمله الفني شيطانا. الوعي الحساس لإنسان فريد يفضي به إلى معاقبة كائن آخر لأنه عاش ومات على نحو يلائم بشريا أن يعيش ويموت.

نعلم أن حشدا من المثقفين (ونحن نستبعد طائفة المحللين السياسيين الذين يدفع لهم بسخاء في شاشات التلفزيون، فبضاعتهم فصاحة رخيصة) سيأخذون علينا تطاولنا على قدسية العارف المطمئن بمعرفته، وأننا إذ نصورهم في أنفاقهم المظلمة الموحشة قد يفهم أننا إنما نكرر هتافات أنصار الفاشية العربية "يسقط المثقفون الخونة، الموت للمتعلمين الجهلة."

وما أبعد هذا المأخذ من فهم استنارتنا بظلمة نفق Ernesto Sabato ولص نجيب محفوظ. إن رحلة بابلو كاستيل من لحظة إرضاء رغائبه من فتاة ليل نعتها بالبهيمة، إلى اكتشاف أن وراء فنه "المتين" على رأي النقاد هشاشة إنسان يمكن أن يدمر كل قيمه ومبادئه في زمن الأزمة، ليست طويلة بحق، وإن تكن ثقيلة منذرة بأنه "سوف لن يلقَى ذلك الانتظار السخيف أي جواب بعد الآن"، بأن عزلتنا في خصوصيتنا، لا شفاء لها، بأن انتظارنا لتحقق طموحنا كما هو مكتوب ومرسوم يعوزه الثبات أمام تقلبات الأيام.

إن احتفاء خليل الحاسي بآلام تمخض المثقف وصدمة التحول المعرفي وانتصاره على الخرافة جديرة باحتفائنا، لولا أن هذه الشاعرية العميقة كانت لتحيط المثقف بطيف خيلاء، وتورثه عقدة كل طاغية متسلط، عقدة التميز والتفرد عن هؤلاء الذين لم يخوضوا معركة التحول والانتصار على الخرافة، لأسباب عدة منها انهيار التعليم ورعاية الدولة للخرافة.

المثقف إنسان تلهبه الشهوات، يعوزه الوقت للإحاطة بكل المعارف، ومن هذا المنطلق يمكن أن يضلل مواطنيه أكثر من أن ينقذهم. إن آمال هرمان هسه بإنسانية أكثر رقيا عبر ذيوع الآداب بين الشبيبة تتحطم أمام واقع يدير فيه النازيون واسعو الاطلاع آلة حرب مدمرة واستراتيجية دعاية قذرة. المثقف يكشف عن جهل خطير، هو جهل المتعلم بجهله.

وأديبنا Sabato تناول هذا الموضوع بدقة مفادها أن "كم كان مضحكًا، كم كان محزنًا ذلك كله." إنه محزن، وليس مدعاة لليأس، غير أن الكشف عن إنسانية المثقف، ومواطن فقره ومراكز عجزه، تخدم أهدافنا لإيجاد عالم أكثر يقظة، أشد حساسية لإمكانية أن تجري الأمور على نحو معاكس.