Atwasat

مأساة النيهوم (5/5)

سالم الكبتي الأربعاء 18 مايو 2022, 02:00 مساء
سالم الكبتي

(هناك شمس لا تغيب في قلب ما أكتب)
ألبير كامو

..والرسالة التي كتبها النيهوم من أطول رسائله وأجودها من التي كتب في جملة ما كتب إلى أصدقائه تلك الفترة وهي علاوة على كونها قطعة أدبية فنية متكاملة فقد ذكر فيها تفاصيل مهمة عن الموهبة وقلق الفنان والصورة والكلمة والخلق الفني للكلمة.

كانت في الوقت نفسه تومئ إلى قلق النيهوم أيضاً ومعايشته لمعاناته ومحاولة أن يتواءم مع الوسط الذي يعيش فيه ويعاني من أجله، إضافة إلى ظروفه وأحزانه الخاصة التي يحددها في عدم تقدير الآخرين له وسوء الفهم الذي يلازم تجربته في دراسته العليا وفي إبداعه وفي سلوكه.

لقد أجابه الطالب الآخر في النقاش الذي جرى بينهما والذي ظل يعتقد في نوع من التعالي والزهو أنه أفضل كثيراً من غيره.. أجاب عن سؤال النيهوم السابق: ما الذي يجعلك أنك أفضل من الكثيرين منا؟
قائلاً ببرود: كل شيء أيها الأخ. كل شيء.
وأعاد موقف ألمانيا نفسه بصورة مغايرة لكنها تلتزم نفس الأسلوب الذي يرفع أنفه في وجوه الآخرين من البشر ويصور النيهوم اللحظة بدقة.

قال في الرسالة: (وأحسست بالغضب. وطفقت أحداثه عن أول لقاء بيننا.

قلت له: هل تذكر أول مرة رأيتني فيها. لقد كنت تجلس هنا.. في هذا المكان بالذات وكنت تشعر بالزهو بلا شك ولقد مددت لي يدك ببرود عندما قدمني أحد الأصدقاء إليك وما كان أحد ليقنعك بأنك مجرد ولد مخدوع لولا أن قمت أنا بذلك.

ولقد أثبته لك أمام أصدقائك جميعاً وتورد خداك السمينان وشرعت تهذي على غير هدى حتى لقد قتلتنا بالضحك).


وقال بحقد: أنت تبالغ أيها الأخ.. ويستمر النيهوم واصفاً الحالة: (لم أشعر برغبة في الاستماع إليه فأنا لم أبالغ قط وقلت له: أنا لست أخاك ولا أحب أن تدعوني بذلك ولا أريد أن أناقش معك موضوع الشعور بالسمو لأن ذلك عقدتكم جميعاً.

ولكن دعني أقل لك أيها الحشاش المليء بالعقد والفول إنك لا تفضل أحداً ولايفضلك أحد في بلادنا).

انتهت المواجهة بين النيهوم والطالب الآخر. كان كل أحد منهما في نقطة افتراق عن الآخر في سوء الفهم عن الزمالة التي تجمعهما في الدراسة في أعلى المؤسسات العلمية وهي الجامعة التي تعد صناع الفكر ورجال المستقبل. لم يرض النيهوم بمنطق التعالي وأسلوب السمو والعجرفة التي انتابت زملاءه الليبيين في ألمانيا ثم امتلأت بها روح وشخصية زميله غير الليبي في جامعة القاهرة. موقفان كلاهما من ذوي القربى.

وقد اتخذ النيهوم هذا المبدأ في حياته وعلى كل المستويات. تمرد على هذا الشكل القبيح من التعامل ورفضه.

كان يرى في التعالي غروراً بائساً يقتل الشعور الإنساني في شخصية الإنسان ويجعل المجتمع يتناقض ويتضاءل أمام هذه الصور الكئيبة. المجتمع لكي ينهض ويتقدم لا بد أن تحكمه الإنسانية والأخلاق والفضيلة في أبسط صورها ثم إلى أعلاها.

وماذا حدث بعد ذلك؟
استلم النيهوم إنذاراً بالفصل من الجامعة نتيجة للوشاية التي وصلت إلى إدارة الطلبة. وتصور نفسه أنه أضحى هنا غريب الوجه واليد واللسان ولم يشأ وفقاً لذلك أن يتركهم يرتكبون خطأً آخر.

أشار إلى أنه قدم لهم ورقة صغيرة في الحال قائلاً:(أنتم أحسن الشعوب وأنا لا أريد أن أقيم عندكم وأرجو أن تقوموا بتسليم أوراقي للسفارة ولكم أطيب الأماني وليكن الله معكم).

ثم يعلق بسخرية على هذه التجربة: (وهكذا انتهت أعجب منحة دراسية في العالم)!
ثم أوضح أن السفير الليبي (كان يومها السيد محمود الخوجة) استدعاه وبين له بأن مصلحته فوق كل اعتبار ويجب أن يعود إلى دراسته ولا يهمك قط ما يعتقده الناس عنا.

ورد السفير برسالة مفصلة تحددت في (أن مستقبله لن يتأثر بقرار التخلي عن الدراسة في القاهرة) وبالنسبة لحادثة الشجار فهي لم تكن من أجل ليبيا لكنه تشاجر وسيقوم بذلك متى يشاء لأن ذلك النتن المليء بالعقد لا يفضل في الواقع أياً من أصدقائي الذين أعرفهم ولأن الدراسة هنا لا تطيب لي بأي حال. فأنا يا سيدي السفير وبمنتهى التواضع أكبر كثيراً مما تنم عليه ملابسي البسيطة وأساتذتي أصغر كثيراً من ملابسهم ومظاهرهم..)

حاول السفير أن يثني النيهوم عن موقفه ووعده بإعادة مرتبه من جديد كان يدرك موهبته وإخلاصه لكن النيهوم أصر على موقفه ولم يتراجع عن ذلك مشيراً بأن: (مشكلتي لم تنته بعد فأنا رجل يملك الكثير.. يملك العالم بأجمعه وبوسعي أن أذهب إلى أي مكان وأجد عملا..).

.. وهذا ما حدث بالضبط. أدار وجهه للدراسة بالكامل. تركها تماماً. طغت على نفسه في تلك اللحظات مشاعر الكبرياء والاعتداد بالنفس.

لم يرض أن يساير ما يحدث في الجامعة العتيقة من مناهجها أجرائها.. إلى أساتذتها.. إلى طلابها منطق التعالي السائد في كل الأمكنة الذي اعتبر النيهوم (متخلفاً) قادماً (من بلد بدوي متخلف).

ورغم أن الجامعة الليبية حاولت كثيراً على مدى الفترة الموالية مع النيهوم لمواصلة الدراسة وإعطائه فرصة أخرى.

ولا تريد أن تفقده أو تفرط في موهبته الكبيرة أستاذاً في المستقبل بالجامعة الليبية التي تحتاجه وتحتاج أمثاله وتحتاج إليهما طلابها. لكنه ظل مصدوماً في الأساس ما تحفل به الأوساط الجامعية وبعض نظراتها القاصرة وأصابه نفور من منطق الزهو الأجوف والتعالي على الآخرين ودون مبرر. إنهما مرضان يفتكان بالناس والمجتمع.

أقام بعد هاتين التجربتين في ميونخ والقاهرة في هلسنكي.. عند حافة القطب في أقصى نقطة من العالم حيث الشمس تشرق في النهار بضع ساعات. وجد نفسه هناك. استقر ووجد الملاذ الآمن خلالها يتفق ورؤاه وأحلامه فناناً وكاتباً شرع في الكتابة المتواصلة في جريدة الحقيقة في بنغازي ولم يتوقف إلا مع إيقافها العام 1972.

حاول أيضاً تلك الأيام أن يجد نفسه في عمل مناسب في السفارة الليبية موسكو القريبة من هلسنكي والمتجمدة مثلها في الشتاء ثم في بلغاريا ثم علم فيما بعد بأن ليبيا بلاده ستفتح سفارة لها في فنلندا تابع محاولاته واتصالاته في أن يجد (عملا مناسبا) بها لكنه لم يفلح. لم يفهمه الآخرون أيضاً وعرقلوا تلك المحاولات برتابة الروتين والشروط المملة.

لم يتخل عن جنسية بلاده أو يرمى بجواز سفره الليبي مثلما فعل الكثيرون في لحظة يأس قاهرة. ظل النيهوم ليبياً كما هو لم يتغير. وثمة رسائل أخرى عديدة أعدها للنشر في طبعة جديدة مع صديقه زايد العماري الموظف بالديوان الملكي في بنغازي الذي حاول أيضاً أن يدعمه تقديراً لموهبته وكفاءته وإخلاصه.

وقد رفض النيهوم ذات مرة بعض العروض بشأن وضعه. قال للعماري في إحدى رسائله: (أخي زايد أنا لا أستطيع أن أكتب طلباً للملك لعدة أسباب هامة منها: أنني لا أرغب في وظيفة رسمية عن هذا الطريق. ومنها أن تعييني رسمياً لا يمكن أن يتم إلا بحضوري إلى ليبيا طبقاً للقانون).

ثم كانت تجربته ورحلته مع الكتابة أفضل بكثير من تجربته الجامعية تواصل مع القراء. تعرض كثيراً طوال التجربة إلى المزيد من سوء الفهم من جديد وبطرق أخرى أغلبها ملتوية ومعوجة اعترت (فاقديه الصغار على الدوام)عوامل تلتزم بنهج (الروح الحاقدة)التي لا تهدأ في كل الأحيان والمناسبات التي يأتي ذكره فيها.

وتلك. مرة أخرى. مأساة كبيرة للنيهوم ظلت ترافقه حياً ثم ميتاً من بني قومه الأشاوس.. هناك في قبره جنوب بنغازي!