Atwasat

حسونة.. الرحيل في الربيع

سالم الكبتي الأربعاء 02 مارس 2022, 12:39 مساء
سالم الكبتي

(خلا البيت وانسل لون المغيب
هنا كان يطوي خيوط الدروب..)
بدر شاكر السياب

.. وأيضا عن الرجال الذين يرحلون ويتركون فراغا موحشا، لكن أثرهم وذكرهم يظل باقيا.. يظل شامخا.. هل قلت الرجال!؟

أجل. يرحل صديقي حسن الصديق قريو أو، كما تعود الأصدقاء أن يخاطبوه دائما، (حسونة).

واحد من رجال يندر وجودهم في هذا الزمن الثقيل. واحد يطير من السرب ويتوقف عن التحليق. يرحل في الربيع مع تفتح الزهور على امتداد الأرض. موسم الخصوبة والعطاء.. لكن حسونة لا يواصل التحليق. فاجعة فقد الأصدقاء الرجال في كل الأوقات خاصة على مشارف الربيع حيث تزهر الدنيا وتشرق الشموس.

يرحل، وهو المثقف الأصيل والمحاور الرائع المليان إلى حافته بالفكر والثقافة والأنسانية والمودة والمحبة.. في بلد يكمم الأفواه على مدار عقود أربعة. في بلد مخاضه أعسر ولم يعشر. سجن شقيقه حسين الصديق.. الضابط الوطني الشريف. وطال سجنه ثم أطلق سراحه في الربيع.

كانا نسيجا واحدا ومتألفا من الوطنية والأخلاق العالية والرجولة. عانى حسن من المرض طويلا وظل مقعدا لعدة أعوام، لكنه لم يقعده عن التفكير والمبادرة والحوار الجميل والفهم السليم للأمور.

وقبله عانى حسين من مرارة السجن وقسوة الظلم وظل، في كل الأحوال، رجلا نبيلا وأكبر من السجن والسجان.. السجان الذي يعرفه جيدا قبل الكارثة التي حلت بالوطن. لم ينحن للإغراءات بعد إطلاق سراحه ولم يخش أي تهديد أو مساومات أو محاولات ابتزاز. لم يأبه بذلك كله وظل رجلا نبيلا مثل شقيقه حسن. ثم واجه المرض بشجاعة وصبر ورحل بعد التغيير الذي حدث بأشهر قليلة. كان يحلم بالتغيير في الوطن ويؤكد على أنه واقع لامحالة.

حسن وحسين صنوان رائعان ومثلان لكل القيم والفضائل. وكذا الأسرة الصغيرة.. الشقيقات والأشقاء. فتحوا عيونهم في ديار الهجرة في بيت مفعم بالوطنية والتألف. هناك حيث تجانس الليبيون، على اختلاف مناطقهم، وتوحدوا وحدة عجيبة.. هناك دون فرق. تألف الليبيون زمن الطليان. تراصفت صفوفهم دون اعوجاج يذكر. ثم صاروا في زمن آخر موحش يقيمون المصائد لبعضهم داخل الوطن ويعقرون أقدام بعضهم لكي تسيل الدماء ويضحكون في شماتة. ونهضت ثقافة جديدة.. وولدت أجيال جديدة تحمل في صدورها مزيجا غريبا من الحقد والكراهية والعنصرية وعدم الانتماء للأرض التي يقفون عليها.

في هذه الثقافة الكريهه لم تعد ليبيا واحدة. تعددت وتكاثرت وتناسلت مثل الضباع في المغارات البعيدة وأضحت (ليبيات) كثيرة.. حكومات ومصارف وأطماع وشهوات وبرلمانات ومجالس وصفقات وفجائع في الوطن كل يوم. ظل الوطن على هذه الحال لا يعرف قيمة الرجال وقيمة الفكر وقيمة التسامح وقيمة التنازل عن شجاعة ومروءة.. وقيمة العطاء. ظلت النقود والمناصب والمناطقية والمرابيع عنوانا للمصالح والأطماع.

ذلك شئ لم تعرفه الأجيال التي مضت، إلا فيما ندر، لأن لكل قاعدة استثناء وشواذ مثل الشيطان الكافر. ذلك شيء لم يألفه حسن في ديار الهجرة حيث التقت ليبيا كلها دون أية فروق وفي الأسكندرية، حيث عاش حسن وأسرته، كان العقل في الوطن القريب.

وكانت هناك الأصول والفروع والعلاقات مع من شتت شملهم العدو.. أسر وعائلات ليبية صميمة.. قريو وبعيو والقويري والشويهدي والسويحلي والرايس والضراط والأشقر والمغبوب.. وغيرهم. وظل شاطيء الثغر مع مودة الليبيين يحتضن شابا ضريرا رمته الأقدار للدراسة هناك، وهو عيسى الفاخري، وفتى سيكون في مقدمة شعراء العرب.. الأسمر محمد الفيتوري.

وفي القديم قبل ذلك عاش وولد الليبي عبد العزيز جاويش أو عبدالعزيز شاوش.. اللواء والصحافة والنضال. والحزب الوطني. حكايات الوطن وأسماره وأشعاره وقصص رجاله تروى هناك وتستقر في النفوس الصغيرة التي تذكرها لهم العقول الكبيرة. ولم يألف حسن ما حدث لاحقا في عموم الوطن. عشق التاريخ. درسه جيدا وتخرج فيه عبر الجامعة الليبية في بنغازي 1966.

وكانت الجلسات تعمر دائما بوجود حسونة في بنغازي وكل المدن. في كل البيوت واللقاءات. في مخيمات الحركة الكشفية التي وحدت الوطن ذات يوم في خيمة كبيرة واحدة. الجلسات التي تفتقد حسونة تموء بالوحشة والفراغ. الجلسة معه تساوي قراءة كتاب أو موسوعة أو مشاهدة فيلم رائع أو مسرحية جميلة أو سماع أغنية لاتمل منها الأذن.

جلسات في بيت الأستاذ عبدالمولى دغمان والأستاذ أبوبكر الهوني. وفي بيته أيضا وغيرها. حيث كانت المرابيع عنوانا للمودة والثقافة والفكر والتجانس.. لاغير.

كانت صالونات تحفل بقدح الأفكار ولهيبها في الليالي والأمسيات والصباحات المشرقة. لم يكن حسونة. يحمل حسدا أو ضغينة لأحد. يستذكر الأصدقاء على الدوام.. في كل مدن ليبيا. في مصر حيث تعرف على رموز الحركة الوطنية ومناضليها وأفكارهم. وفي الخرطوم.. كانت له محبة ومودة عجيبة للسودان وأهله ويفهم طبيعته تماما ومجريات سياسته وكأنه زول سوداني قادم من أم درمان. وفي قبرص.. وفي كل الأماكن. كان صورة لليسار الوطني الممتاز المدافع عن الحرية وعدم تكريس الظلم أو العسف. لم يكن في ذلك مثل العديد من أبناء جيله مقلدا أو تابعا أو أمعة أو مراهقا مثل الكثيرين الذين يظلون في خط المراهقة الفكرية لايتجاوزنها.

.. وأيضا عن الرجال الذين يرحلون؟ !

هل قلت الرجال؟
أجل. من يعرف قيمتهم في الحياة وقبل الرحيل.. أيها الوطن الذي ترفع فيه قبعتك للتافهين.. أشباه الرجال. والرجال لايموتون. لايحتاجون للإنصاف من وطن هذا حاله على الدوام!!