Atwasat

مذكرات جلود.. الرائد يكذب أهله ! (2-2)

سالم الكبتي الأربعاء 09 فبراير 2022, 01:57 مساء
سالم الكبتي

(وشكرك لروحك مايزيدك طوله .. مايقبلوه الناس بارد فنه)
(واللي مدير في عقاب خيوله .. اللي حاضرين معاه يكفو عنه)
عبدالمطلب الجماعي
شاعر ليبي عاش في القرن التاسع عشر

في مقدمة (المذكرات)أشار ناشرها، وهو المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في قطر إلى أن.. (مذكرات وسير الفاعلين في الأحداث والذين كانت لهم أدوار مباشرة أثرت فيها تمثل أحد أهم مصادر الكتابة التاريخية عموما والكتابة التاريخية الحديثة العربية خصوصا. فالمذكرات تكشف ما لا تكشف عنه الوثائق من حيوية التفاعل بين صاحب المذكرات والأحداث التي ينخرط فيها وتقدم معلومات متنوعة ثرية للمؤرخ على أن يكون واعيا لموقع الفاعل السياسي صاحب المذكرات وخصوصية زاوية النظر التي يرى منها الأحداث والشخصيات الأخرى. من المتوقع أن تثير هذه المذكرات المهمة وما تزخر به من معلومات وتفاصيل ووجهات نظر وتقييمات للأحداث والفاعلين الآخرين.. النقاش وربما السجال أيضا وهذه هي طبيعة أي مذكرات تتسم بالأهمية).

كلام جميل جدا ورد في سطور المقدمة نتفق فيه تماما مع ما قاله الناشر، ولكن، بكل صراحة وبعيدا عن أية نظرة تتجاوز ما تمضي إليه تلك المقدمة، لنا أن نتساءل ونعيد التساؤل خدمة للتاريخ والتفاعل المطلوب مع ما ورد أو يفترض أن يكون سليما في الغالب خلال المذكرات: هل تتفق ملحمة الرائد جلود مع ماورد في مقدمة الناشر؟ هل قدمت معلومات وكشفت تفاصيل؟ وهل هي مهمة حقا بهذا الشكل الذي وردت به أم خيب الظنون رجل الدولة الثاني طوال فترة عقود من الأعوام؟

إننا نجد التناقضات والأخطاء والالتباسات تتكاثر وتتناسل في ما كتبه الرائد جلود بكل أسف وإذا كان ثمة من ينهض بالقول في وجوهنا نحن القراء بأننا تعمدنا إغفال الإيجابي في المذكرات أو بأننا نقتنص العثرات والأخطاء على طول صفحاتها وظللنا نؤكد فقط على الالتباسات في الأحداث وأسماء الشخصيات والوقائع في إشارة إلى أن ذلك غير مهم في كتابة السير والمذكرات فإن الرد سيكون في المجمل صريحا وواضحا منذ البداية. فالذي حدث ويحدث أن القاريء سوف لن يرى أو يجد شيئا إيجابيا أكدت عليه المقدمة قبل أن يقرأ القاريء المذكرات. إنه، أي القاريء، لن يجد ما يفيد على الإطلاق سوى أن المذكرات أو فشة الخلق أبانت بوضوح عن شخصية الرائد وطريقة تفكيره وإدارته للأمور.. لن يجد في الغالب سوى الخطاب القديم.. العمالة والخيانة والصمود والتصدي والحدة والعنف والصوت المرتفع والتهديد والصفع باليد للآخرين وإطلاق الرصاص من مسدسه.. وذلك شئ معيب ومخل في كتابة المذكرات أو الذكريات من شخصية مسؤولة ذات يوم وتتحمل تبعات هذه المسؤولية أمام الله إلى يوم الدين. إننا في الواقع نجد شخصية عنيفة وحادة على الدوام لا تختلف في المطلق عن شخصية غريمه أو رفيقه منذ النضال المشترك تحت البطانية في مركز بوليس سبها عام 1958 فهما مكمل لبعضهما على طول الخط. وإذا كان الرائد قد أشار إلى أن العقيد قد تردد أو تراجع يوم الثورة ونسب هذا القول إلى كثيرين كانوا شهودا قريبين من الحدث وأضاف الرائد إلى أن العقيد اعترف بذلك لأنه كان قائد الأوركسترا ومهمته ضبط الإيقاع، فهذا ما لم يقله العقيد، فقد جاء ذلك في مجمل رد الكاتب محمد أحمد الزوي رحمه الله على مذكرات الرائد عبد المنعم الهوني في حلقات ثلاث نشرها في مجلة الوسط خلال سبتمبر 1993. أقول إذا كان الرائد يؤكد تردد العقيد يوم الزحف فثمة أقوال كثيرة من معاصرين لذلك اليوم في طرابلس من الضباط وشهود من زملائه بأنه نفسه تردد وقارب على التراجع وربما هدد بالسجن أو بالتصفية لكي يتقدم ويكمل المشوار!

والمذكرات التي ينبغي أن تضعنا في قلب الأحداث كما تؤكد المقدمة خلت من التعرض إلى أشياء مهمة في التاريخ السياسي المعاصر لليبيا منذ سبتمبر 1969.. لم يذكر الرائد شيئا عن بداية التنظيم العسكري وعن مشاركة المقدمين آدم الحواز وموسى أحمد وعن المحاولة التي قاما بها لتغيير النظام في ديسمبر 1969 والخلافات التي سادت الأجواء تلك الأيام.. وعن الكثير من المحاولات والمحاكمات والتعذيب وعن وجود ضابط المخابرات المصري فتحي الديب ودوره وعن مقتل العقيد حسن اشكال وصالح بوفروة وأحداث الطلبة والمواجهة مع السلطة في الجامعة أثناء تشكيل اتحادهم نهاية 1975 وبداية 1976 وكان رئيسا للوزراء. لقد اتهمهم فقط بالماركسية وأن قوى الثورة انتصرت عليهم في الجامعة ونسي أنه دخل أيضا إلى الجامعة في طرابلس هاتفا (الفاتح في الجامعة) وشاهرا مسدسه بعد أن أطلق زخات منه مهددا. تلك الأحداث التي شهدت الاعتداءات وحرق سيارات الطلاب أمام بيوتهم ومقتل البعض منهم (جلال* بوسنوقه وموفق الخياط). ثم رفض الطلاب لكيفية برامج التدريب العسكري التي تتعارض ونظم الدراسة والقيام بمسيرتهم الضخمة في بنغازي يوم السبت 22 فبراير 1975 ومثولهم إلى محاكمات رأسها الرائد عبدالفتاح يونس آمر قوات الصاعقة رحمه الله في ذلك الوقت. كل ذلك تغاضى عنه أو نساه الرائد الذي كان رئيسا للوزراء. ثم نسي الرائد أنه كان رئيسا لمكتب الاتصال باللجان الثورية التي أصدرت في ملتقاها الثالث في فبراير 1980 في بنغازي ضمن مقرارتها في ذلك الملتقى أن التصفية الجسدية هي آخر مراحل الصراع مع القوى المضادة للثورة. وبالفعل بدأت تلك اللجان أعمالها البطولية فوق أرصفة العالم في إبريل 1980 وكان الرائد رئيسا لذلك المكتب كما سلف القول رغم أنه أشار للقذافي برففضه لهذه الأجراءات.. فمن يصدق من! وعلى طول سطور المذكرات يحاول الرائد أن يكون منظرا أو مفكرا أو مثقفا أو مصلحا كما أشار إلى نفسه بأنه أكاديمي،والواقع ربما يخالف ذلك. لقد كان في أبسط البديهيات ضد الكلمة والصحافة وأذكر أن الأستاذ رشاد الهوني.. الصحفي الكبير أعد مذكرة مفصلة ووافية عن إصدار صحيفة يومية مستقلة تصدر إلى جانب الصحافة التبشيرية الموجودة بتاريخ 24 يناير 1989 في الأجواء التي سادت ليبيا عقب الانفتاح المحدود الذي شهدته بعد ما سمي بأصبح الصبح. حدثني عن ذلك وزودني بهذه المذكرة التاريخية وأشار إلى أنها كانت بطلب من القذافي عن طريق العقيد يوسف الدبري. وصلت إليه ولكن الرائد جلود اعترض ووقف في الخط ضد الصحافة الرجعية وأحلامها وماتت الخطوة قبل أن تبدأ ولعل القذافي نفسه كان غير مقتنع أيضا بذلك.

والخلط يستمر على طول المذكرات. رجل يشارك في تغيير النظام الملكي ولا يعرف أن ولي العهد الأمير الحسن الرضا هو ابن أخ الملك إدريس. ويذكره أنه حفيده ويشير إلى أن الأمير زار سبها عام 1958 لكن جلود قام بحركات معاكسة مع غيره في تحريض الجماهير ضد الزيارة. وذلك تاريخيا لم يقع ولم تشر إليه أية مصادر أو جهات والأمير في الأساس لم يزر سبها إلا مرتين: الأولى عام 1960 وكان حينها جلود في طرابلس حسب ما ذكر في كتابته بأنه انتقل إليها ذلك العام. والزيارة الثانية كانت في سبتمبر 1962 عندما قام الأمير بافتتاح طريق فزان. كما خلط كثيرا جدا بأن أخاه عمر الذي يعمل بالمباحث في سبها والذي أعد شهادة حسن السيرة والسلوك للقذافي عقب طرده من الدراسة في فزان عام 1961.. واجه (محمد سيف النصر) بعنف بعد أن قام بذلك في نقاش حول الطرد ولعب (الفروخ) الذي يحدث من القذافي. والصحيح أن الواقع المعروف ينفي ذلك تماما و (البي محمد) كما اشتهر لايمكن أن يقترب من نقاش هؤلاء الأفراد في الأصل وبهذه الطريقة ولايمكن أن يواجهه أخوه بعبارة أو خطاب (يا محمد) . إن ذلك أمر بعيد الاحتمال ومجرد بطولة في الهواء وشيء لايصدق. وهنا أؤكد على أن العقيد الطايع عبد الحق الحاسي رحمه الله وكان مديرا لمحافظة الخليج ألتقيته خلال قيامي بالمسح الميداني لجمع التراث الشعبي في إجدابيا عام 1974 حدثني بأنه كان في الخمسينيات نائب عريف في قوة بوليس فزان مع مجموعة من أفراد البوليس من ولاية برقة يعملون في فزان. كان عمله بالتحديد في قسم المباحث الجنائية وهو الذي استخرج وأعد تلك الشهادة لمعمر القذافي الذي جاء إليه وحدثه عن ظروفه فرق لحاله وتعاطف معه بطريقة خاصة وسرية ومكنه من الحصول على هذه الشهادة. إذن فإن السيد عمر جلود لم يقم بذلك على الإطلاق وفقا للفاعل الرئيسي وهو السيد الطايع عبدالحق. ويخلط الرائد أيضا عندما يتحدث عن تشكيله للحكومة عام 1972 بأنها ضمت الدكتور علي عميش. وذلك خطأ كبير. فالأستاذ عميش الذي منحه الرائد الدكتوراة لم يكن وزيرا في تلك الحكومة ولم يتول أي منصب وزاري بعد الحكومة الأولى التي ترأسها د. محمود سليمان المغربي من سبتمبر 1969 إلى 16 يناير 1970 حيث تولى الحكومة العقيد القذافي نفسه. ويتحدث الرائد باستمرار في ثنايا السطور بأنه ضد القمع وضد المخابرات ونسي أنه في فبراير 1970 وكان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية تشكلت في فترته الإدارة العامة للمباحث العامة ومنحت الصلاحيات والاختصاصات الكبيرة. ونسي أنه زار السجن الرئيسي في طرابلس وظل يجمع مسؤولي العهد الملكي ويتوعدهم بأقسى العقوبات ويوجه لهم الكثير من الإهانات. وأذكر في هذا السياق حكاية مهمة تفيد الغرض. ذكر لي الصديق عبد الونيس محمود.. الضابط المعروف المشهور بثقافته وكفاءته أنه حكم بالإعدام في قضية الحواز وموسى أحمد وظل في زنزانة انفرادية ينتظر المجهول وذات يوم فتح الباب بقوة فوجد جلود أمامه ومعه بعض أفراد الانضباط العسكري وأشار إليه في شماتة.. مازلت حي أنت؟. وأكد على أن ذلك لم يحدث من أعضاء آخرين في القيادة. وعاد بي للوراء فلذلك خلفية ظلت في صدر جلود فترة من السنين.. كان عبد الونيس ضابطا في مدرسة المشاة بالمرج وكان جلود ملازما حديث التخرج وحضر إلى هناك للمشاركة في دورة عسكرية قصيرة. وفي إحدى الليالي كان عبد الونيس ضابط خفر بالمعسكر يتفقد المرافق والحالة السائدة. وجد جلود يحوم حول حمى بيت أحد الضباط وكان في مهمة في بنغازي وعلم بنواياه غير الطيبة. وبخه وأعطاه درسا في الأخلاق وأشار إلى أنه بأمكانه إلحاق الضرر به وإحالته إلى مجلس التحقيق لتأديبه ولكنه حذره من مغبة تكرار ذلك وطللب منه التزام النظام واحترام البيوت.. والرفاق وعدم الخيانة في غيابهم أو وجودهم!

وظل يتحدث عن الوحدة العربية وتحرير فلسطين ويفخر بدوره في حل المشكل الفلسطيني السوري اللبناني وذلك أمر لانجده عند ما ورد في كتابات كريم بقرادوني وعبد الحليم خدام على سبيل المثال وذلك يكفي ثم نقده الحاد لحرب إكتوبر 1973 والقيادات العسكرية المصرية وأعتقد أن أخوتنا هناك لن يصمتوا عما ورد فيها من إهانات لتلك القيادات. ثم يفخر بالضربات الليبية الصاروخية لبغداد وهو شيء يدعو إلى العار خلال حرب العراق- إيران عامي 1985و1986. كانت تلك المشاركة الليبية مأساة وكارثة. لقد تردد بأن القوات الليبية كانت تنزل أسلحتها وصواريخها جنبا إلى جنب مع المساعدات الحربية القادمة في نفس اللحظة من إسرائيل. وجلود الذي يحلم بالوحدة العربية وتحرير فلسطين يعتز بأن ذلك كان ضد الطاووس صدام حسين! ويفخر بأنه قاد المواجهة العسكرية مع مصر عام 1977 ومنح على أثرها (ركن). وأشار إلى أن تدخل ياسر عرفات أنهى تلك المواجهة والصحيح أن تدخل الرئيس هواري بومدين هو الذي حسم الأمر فقد جاء في رحلات مكوكية بين البلدين إضافة بالطبع إلى طلب الرئيس الأمريكي جيمي كارتر من الرئيس السادات عدم الاستمرار في التقدم للدخول إلى الأراضي الليبية. ثم ينسى الرائد أدوار زملائه في القيادة. الذين على الأقل لم يعرض عليهم هذه المذكرات للتصويب والتذكير. تجاهل مبادراتهم التي سبقت نضالاته في الإصلاح منذ البداية. تجاهل من الناحية التاريخية ما قام به زملاؤه.. محمد نجم وعبد المنعم الهوني وعوض حمزة ومختار القروي خاصة بعد إعلان الثورة الشعبية التي تصاعدت بإعلان سلطة الشعب في سبها يوم 2 مارس 1977 والذي تولى قراءته الرائد جلود في مؤتمر الشعب العام.
والعديد من الأخطاء في أمور كثيرة لاتنسجم في الواقع مع ما أشارت إليه مقدمة المركز الذي نشر المذكرات بهذه الصورة. إنها نجحت فقط كما أشرت في تعريفنا عن قرب بالرائد وطريقة تفكيره ومعرفته للسياسة وإدارة الشؤون. ولعلها تنجح أيضا في فتح باب أمام زملائه من العسكريين والمدنيين المعاصرين لفترة (الفاتح) وتشعرهم بالمسؤولية والأمانة التاريخية الصادقة فيتصدوا بالكتابة وتدوين مذكراتهم بمنتهى الموضوعية والصدق.. لكن بعد الاستفادة القصوى من تجربة الرائد جلود والابتعاد عن تكرار ما ورد فيها من شخصنة وأنانية.. وأخطاء مثل الكوارث في التاريخ!!

* الحقيقة أن جلال بوسنوقة لم يقتل في تلك الواقعة، وإنما أصيب إصابة بالغة (أظنها في الدماغ) وقد عولج في الخارج وأثر ذلك على قواه العقلية وذاكرته وتوفي بعد ذلك بعدة سنوات. (المحرر).