Atwasat

رصد أم شرعنة منع نقد الذات الحكومية؟!

علي شعيب الثلاثاء 25 يناير 2022, 12:04 مساء
علي شعيب

يناير عام 1964 أصدرت حكومة المملكة الليبية برئاسة محمود المنتصر قرارا بإلغاء صحيفة: (البلاغ) وصحيفة (الشعب) اللتين أصدرهما (العليّان) صادقا الوطنية والانتماء ألا وهما: الأستاذ علي عبد الله وريث، والأستاذ علي مصطفى المصراتي رحمهما الله.. وذلك لما كانت تلك الصحيفتان تتمتعان به من مصداقية الأخبار وشجاعة الآراء؛ ومناهضة تبعية الساسة المرتهنين للأجنبي وعدم التجرّؤ على المطالبة بإلغاء اتفاقيات القواعد العسكرية الأجنبية.

وكانت أحداث مقتل الطلبة (النقاز، والبيجو ، وبن حريز) وجرح 112 ، على يد بوليس "القوة المتحركة"، عند انطلاق ثورة طلبة المدارس والجامعة ببنغازي في يناير 1964 وتناغم معهم طلبة الزاوية، فقتل البوليس منهم 4؛ وفي الجميل تم قتل 2.. هي النقطة التي أترعت كاس حكومة محي الدين فكيني فأقيلت، ليخلفه محمود المنتصر، الذي مارس أشدّ أنواع الرقابة والمنع، على الصحافة المستقلة بمصادرة الأعداد، وإرسال الرقباء لقراءة مواد الصحيفة من الغلاف إلى الغلاف، قبل الإذن بطباعتها.

وأذكر أن يوم السبت من كل أسبوع منذ انطلاق مظاهرات الطلبة وما ساندها من حراك شعبي؛ في كامل التراب الليبي، كان يوما عصيبا بالنسبة لبوليس مديرية طرابلس، حيث يتم تطويق مبنى المطبعة الحكومية مكان طباعة صحيفة (البلاغ) التي تصدر أسبوعيا كل يوم أحد، وما تحمله من مقالات وتحقيقات وأخبار لا تسرّ الحكومة ولا تمتدح القصر ولا تطبّل للحاشية!! وانتهى الأمر بأن ألغت حكومة المنتصر ترخيص (البلاغ)، وهي لم يصدر منها سوى 10 أعداد على مدار الأسابيع العشرة ، لنشرها التحقيق الذي أعده آنذاك، من بنغازي المعيد بكلية الآداب، علي فهمي خشيم حول أحداث المظاهرات ومقتل الطلاب الثلاثة وصورهم، ثم أتبعته بعد اسبوع بإلغاء ترخيص (الشعب).

فأججت قرارات مصادرة أعداد الصحيفتين وإلغاء ترخيصهما، أججت غضب الشاعر الليبي "علي صدقي عبد القادر" فكتب قصيدته الشهيرة: (أعداء الكلمة) التي قال فيها:
(إنهم يخشون حتى الكلمة..
ولها يبنون أسوارا وسجنا
بيد معروقة مرتعشة فاح منها عرق الإثم الكريه
عرق الجيل الذي في فمه ثدي الخطيئة
حملوا أشواكهم سدوا الطريق
وعلى أكتافهم ليل مريع وصليب وحبال
ورؤوس تتدلى بالحبال)


تذكّرت وقائع يناير 1964 في شأن ثورة الطلبة من بنغازي إلى طرابلس والزاوية والجميل وغير ذلك؛ ومؤازرة الشعب لها وشجب الصحف المستقلة لقتل البوليس آنذاك، شرقا وغربا؛ للطلبة المنتفضين ضد النظام الملكي وسياساته المتعارضة مع رفض فئات الشعب للقواعد، وعدم مناصرة الحكومة، القضايا العربية؛ ومصادرة الصحف المستجيبة لتطلعات الشارع، فحرمت المواطن من صحفه المفضّلة لديه لأنها تعبّر عما يجيش في خاطره.

وتذكّرت ذلك وأنا أحاول منذ بضعة أسابيع أن أفهم قرار حكومة الدبيبة المؤقتة رقم 752 بشأن إنشاء (الهيأة العامة لرصد المحتوى الإعلامي).. وبعده، أو قبله، لست أدري، القرار رقم 567 (إنشاء الهيئة العامة لرصد المحتوى الإعلامي) وما إذا كانت هذه الحكومة أو من اقترح عليها إنشاء هذه الهيأة التي ظاهرها زعم حماية البلاد من هجمات المعادين لها، وقد يكو باطنها تدجين، وتطويع، واستقطاب، الخطاب بجميع سبله ووسائله السمعية والبصرية ليتحول خطاب مدح وثناء، وتغزل بخطوات الحكومة وما تقوم به "صوابا أو خطأ".. على طريقة (شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فانت الواحد القهّار) ويصبح أي نقد أو اعتراض على ما تأخذه من إجراءات خاطئة، هو مؤامرة تستهدف إسقاط الحكومة والدولة.. وأن هذا النقد عمالة للإمبريالية والاستعمار.

وتذكرت ما أدخله "محمد عثمان الصيد" في حكومته منذ 16 اكتوبر 1960 من إعلان صريح لوزارة سمّاها (وزارة الدعاية والنشر) إلى أن غيّر اسمها الدكتور "محيي الدين فكيني" في حكومته التي شكّلها في الــ 19 من مارس 1963 إلى (وزارة الأنباء والإرشاد) واختار لها الأستاذ عبد اللطيف الشويرف وزيرا.

والأمر الكارثي في هذين القرارين، ليس في ما يحاول البعض بخبث أن يوحي بأنهما صدرا بناء على (خدعة) لرئيس الحكومة، ممن اقترح عليه هذه الهيأة لاستحداث وظائف جديدة، مخالفة للقانون، والمتعارف عليه، من حيث إن الهيئات من هذا الوزن تنشأ بقانون، والقانون تصدره السلطة التشريعية وليس بقرار من السلطة التنفيذية، إلى جانب أن مهامها فضفاضة، وهي اتهامات جاهزة وبكل بساطة يمكن إلصاقها لمن يراد اتهامه وتصفية الحساب معه!!

كما أن القرار الذي صدر، بـــ (تسمية نائب ورئيس الهيئة) المذكورة يتعارض مع المادة 14 من الإعلان الدستوري الليبي التي تنص على: (تضمن الدولة حرية الرأي وحرية التعبير الفردي والجماعي...) ويتعارض مع المادة (٢) من الإعلان العالمي لحقوق الانسان التي نصها (لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان...)، والمادة (19) منه أيضا التي تنص على أن: (لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود)
فهل كان اختيار حكومة الدبيبة المؤقتة لـــ "يناير" للإعلام عن انشاء "الهيئة العامة لرصد المحتوى الإعلامي) مصادفة أم أن له معنى؟!! .