Atwasat

الدولة المدنية والقبيلة

رافد علي الخميس 18 نوفمبر 2021, 12:28 مساء
رافد علي

برزت صفة مدنية الدولة في عصر الأنوار على يد جون لوك في كتابه "مقالة في الحكم المدني" الذى يعتبر فيه أن مدنية الدولة ليست قيمة إضافية، بل هى عنصر من اسس تكوينها. فالمدنية في أساسها عقد اجتماعى بين الإرادات الحرة بالمجتمع، يتنازلون فيه عن قدرتهم على تنفيذ أحكام الطبيعة بذواتهم ليضعوها في الإطار العام بما يشكل مجتمعا سياسيا أو مجتمعا مدنيا.

فالدولة عندما تقوم بشكلها المدني سيتطلب وجودها مبدأ الحياد أمام الجميع بقصد تحقيق الصالح العام، فهي صاحبة السيادة داخلياً، كسلطة إكراه، وخارجياً بكونها من يمارس الدبلوماسية، ومن تملك قرار حفظ سلامة أراضيها. والحياد في الدولة، كشخص اعتباري، أساسه أن يكون رعاياها سواسية أمام القانون وفي القانون، تكفل لهم حقوقهم، وتراقب التزاماتهم، وتكرههم، إن تطلب الحال، على الانصياع لقراراتها، وهو حالة استثنائية في علم القانون عموماً، كما هو الحال في حق الدول في نزع الملكية، مع حفظ حق التظلم ضمن آليات القانون ذاته. وهذا التطور جاء بعد سنوات تغيّر وتطور العلاقة بين السلطة ومكونات المجتمع ضمن مفهوم الدولة وحيادها مع مكونات مجتمعها، فالدولة، كسلطة إكراه، لا تستطيع أن تخلق حياداً نهائياً، وهذا يتضح في الدول العربية المعاصرة التي أُنزلت كمؤسسات مستوردة فى أقطارنا، مما يسبب دائماً حالة تنازع بين الدولة ومكوناتها العصبية، فالعصبية بقيت حية فى مجتمعاتنا؛ لأن "الوطن" لازال حالة وجدانية بعيدة، إذ تبقى العصبية أقوى حضوراً فى أحيان كثيرة، حيث تتجلى العصبية في كواليس الدولة، وفى صور الدولة العميقة، بحسب المشهد العربى لظاهرة الدولنة.

جوهر مبدأ حياد الدول المدنية الحديثة يكمن ضمن عناصر أخرى، إلا أن التركيز هنا سيتركز على عنصر التخلي عن العصبيات، فسطوة القبيلة، كوحدة اجتماعية، تتمتع بولاء أبنائها الوجداني لها على حساب أي شيء آخر، وهذا يُعد معرقلا جوهريا لخاصية مدنية الدولة، باعتبار أن القبيلة حالة امتداد مكاني وزماني لعصبية بعينها، بما يشكل دولة خاصة على بقعة معينة تقوض الدولة العامة حتى على مستوى الولاء الوطنى، وتتجلى هذه الصورة فيما نراه من تعنت القبيلة أمام قرارات الدولة في بعض القضايا، كقضايا الأراضى، وفي حالة تورط أبناء القبيلة في قضايا أمنية، كما يحصل بجنوب مصر وبليبيا وبدول الخليج، بما يجعل القبيلة كدولة شخصية متمثلة في الشيخ مقابل الدولة العامة التي هي مكون منتخب كحكومة. فحياد الدولة يصطدم بالولاء القبلي الراسخ في صفوف أبنائها، وهذا يبدو واضحاً أيضاً في تسيّر الخدمات العامة، وما يتخلله من وساطات بين الأقارب. فـ "الأوطان الكثيرة القبائل والعصبيات قل أن تستحكم فيها دولة، وذلك لاختلاف الآراء والأهواء، وأن كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها، فيكثر الانتفاض علي الدولة، والخروج عليها فى كل وقت، وإن كانت ذات عصبية، لأن كل عصبية ممن تحت يدها تظن فى نفسها منعة وقوة" كما يقتبس محمد عابد الجابري في العصبية والدولة*.

فالمجتمعات العربية ذات الطبيعة القبلية في أساسها لازالت لم تخرج من مسيرتها التاريخية الاجتماعية، لأن نظرتها للوجود اجتماعياً نظرة قبلية محضة. فالحركة التاريخية التي تمس القبيلة في وجودها من خلال ترؤسها من أشخاص متعلمين هي تطور تاريخي لا يمس حقيقة القبيلة كعصبية، فهي لازالت "سيدا مطلقا" اجتماعياً أمام كيان الدولة بمدنيتها، لأن مفهوم الدولة في الذهنية القبلية تم ترحيله لمستجدات القادم لوضعية الدولة ذاتها ومستقبلها ضمن مفهوم الحياد المستورد أساساً في دول الاستقلال من جهة، أو في دول التأسيس، فالقبيلة، كمرجعية اجتماعية سياسية تظل حيّة في الحس الاجتماعى القبلى.**

إن القول بأن القبيلة قد أصبحت اليوم غير القبيلة بالأمس، المحكومة من قبل شيخ جليل وغير متعلم، إذ يتولاها اليوم أصحاب شهادات عليا في مختلف العلوم والتخصصات، هو قول تعوزه الدقة، فليس هذا القول مؤشرا حقيقيا وعلميا على أن القبيلة قد تغيّرت، ولا هو ضمان أساسى على أن معضلة القبيلة مع المدنية قد زالت، وذلك لأن القبيلة مشكلتها في الدولة العربية هو عصبيتها، وانحصار الولاء فيها وجدانياً لذاتها ومحيطها البشري الضيق، فـ "الإنسان ابن عوائده ومألوفه" كما هو معروف. فشيخ القبيلة لا يملك، في عصر الفوضى إلا قبيلته التي يحمل اسمها لقباً، حتى وإن كان متعلماً، لأنها وسيلته في التحشيد أمام العصبية العامة، وأمام العصبيات الاجتماعية الأخرى المنافسة، لأجل إثبات وجودها وثقلها أمامهم جميعاً، تماماً كما حصل في رفع "العكاكيز"، فى سنوات قليلة ماضية، عند مدخل مقر البرلمان في طبرق، صاحب الشرعية حينها، من قبل شيخ قبلي يقسم بالطلاق بأن قراراً لن يُتخذ، لأنه وقبيلته لا يوافقون عليه، وقد كان له ما أراد في ليبيانا التعيسة بنا وبمكابراتنا عن حقيقتنا المُرة وواقعنا المشوش.

هوامش.
• * فكر ابن خلدون: العصبية والدولة. محمد عابد الجابرى. مركز دراسات الوحدة العربية. ط9. بيروت. 2011.ص214
• ** المجتمع والدولة. نعيمة شومان. دار الفارابي. بيروت.