Atwasat

إعلام اللون الواحد وإعلام «الكولاج»

أحلام المهدي الأحد 07 نوفمبر 2021, 11:39 صباحا
أحلام المهدي

عاش الإعلام الليبي زمناً امتد لعقود تحت سلطة إعلام اللون الواحد الذي تفرضه سطوة الثروة المتركزة في يد السلطة السياسية الحاكمة، وقد تأثر العقل الجمعي الليبي كثيراً بتوجهات إعلام السلطة إذا ما استثنينا إعلام المعارضة الذي لم يصل كما يجب لوجدان الليبيين في الداخل بسبب هشاشة الطرح ربما وافتقاره لأساليب الجذب التي تطورت بمرور الزمن وراكمت أدواتها التكنولوجية فلم تملك القوة اللازمة لتكون نداً إعلامياً حقيقياً لصوت السلطة يبعث الشكّ في خطابها، يقول أدونيس في كتابه النظام والكلام إن "الوثوقية الفكرية نوع من الطمأنينة الجامدة التي تشبه الموت.

ولهذا لا يطاق الفكر الذي يزلزل اليقينيات في مجتمع يقوم على مثل هذه الوثوقية. هل نجد في ذلك بعض الأسباب التي تجعل الفكر العربي السائد، فكراً شبه ميت؟"، حالة قصوى إذا من الوثوقية الفكرية التي كان المجتمع الليبي يعيشها تجاه إعلام اللون الواحد قبل أحداث فبراير 2011، تماهى الليبيون بطريقة شبه كلية مع توجهات السلطة وكان العامّة يولون وجوههم صوب الاتجاه الذي يفرضه الإعلام الرسمي حتى إذا لم يكن مقنعاً بشكل كبير فإنه كان مؤثراً وفاعلاً.

منظومة إعلامية متكاملة كانت تقودها أهداف النظام وطموحاته ومخاوفه أيضاً، يقول دومينيك وولتون في كتابه الإعلام ليس تواصلا: "لأن الخوف من الإرهاب تارة والخوف من الديمقراطية تارة أخرى يتيحان فرصاً عديدة لمحاولة "عقلنة" هذه الحريات الهشة والخطرة على الدوام، حول الإعلام.

إن التقنيات ذاتها التي تسمح بتمدد حقل الإعلام وحضور الصور الكلي والتفاعليات من كل صنف، تستطيع أن تكون أيضاً الجلاد الأفعل"، وهذا ما كان فالخوف قوة قاهرة قد تفرض قوانينها على كل شيء وفي كل زمان إذا ما تهيأت لها سبل ذلك من سلطة وثروة وسلاح لم تكن يوماً بيد الشعب.

تجدر الإشارة هنا إلى أن للإعلام الإلكتروني سلطة فعلية أيضاً قد تستعمل باستغلاله المفرط أو بمنعه؛ إذ "لابد قبل كل شيء من التمييز بين دور الإنترنت في الأنظمة الدكتاتورية ودوره في الأنظمة الديمقراطية، في الدكتاتوريات غالباً ما تجمع وسائل الراديو والتلفزة والهاتف الجوال والإنترنت لتوفير أدوات لا غنى عنها لحرية الإعلام والنقد بين المعارضين. ومن الجدير بالذكر في هذا الخصوص، أن النضال من أجل الحرية لم يبدأ، هنا أيضاً، مع ظهور الإنترنت وأن ثمة معارك لا تحصى خيضت من أجلها منذ مئة وخمسين عاما" هذا الكلام لوولتون أيضا.

إعلام "الكولاج":
تتركز السطوة الإعلامية دائماً في يد من يملكون السلطة، فماذا إذا تشظّت هذه السلطة واختلت موازين القوى لأن المال والسلاح أيضاً رافقاها إلى حيث استقرت؟

جاء في كتاب سليمان زيدان الثقافة والهوية: "ثابت أن تنشيط المجتمع عبر نشر وسائط الفكر وتعميم فائدتها وجدواها وبخاصة في المراحل العمرية الأولى يوفر سبل النهوض بالعقلية المجتمعية الكلية، ويجعل الوطن أكثر أمناً وأيسر تقدماً ووعياً، إن سَوسَ أولي الفكر أقوم لقيادة المجتمع والسيطرة الناجعة عليه بخلق مثقف واع يستجيب للآخر دون أن ينقاد له عقلياً وفكرياً باعتبار أن عنف المتغيرات اليوم وفي عصر الشفافية الوحشية والاستشعار المعرفي الكوني عن بعد يطرح مثقفاً مختلفاً موقعاً وتفكيراً وعلاقة وحقيقة وجود إلى درجة زحزحة المفاهيم السابقة لقصورها الدلالي".

في الحالة الليبية وفي إعلام اليوم لا عمق ولا عمل على المدى البعيد، مجرد ترقيع لواقع ممزق، أهداف آنية بعضها يضع البلاد نصب عينيه وبعضها الآخر لا يعبأ بها ولا بالأجيال البازغة من رحمها المريض، يقول نصر حامد بوزيد في كتابه (دوائر الخوف): "تنامى بعد هزيمة يونيو النكراء الإحساس بالعار والخجل. وانجرحت الذات العربية الرجولية انجراحاً لم يجد دواءه -ناهيك عن شفائه- حتى الآن. وتعويضاً عن العجز في المواجهة والثأر لجأت الذات الجريحة للهروب إلى الماضي، إلى هويتها الذاتية الأصلية، إلى الرجولة، في بقائها المتوهم. وعلى المستوى السياسي العربي حدث "التشرذم" هروباً من الوحدة".

ما يهمنا هنا عبارتا الهروب إلى الماضي والتشرذم هروباً من الوحدة، هذه تقريباً خارطة عمل بعض قنوات الإعلام الليبي التي ترتمي في حضن الماضي وتتوه عن خارطة الوطن الواحد فتلتهمها الدعوة إلى التشرذم وإن لم تكن مباشرة.

لا وضوح في الرؤية إذن في وجه الإعلام الليبي، فكل يغني على ليلاه وعلى ليلى أخرى لا نعرفها أحياناً، تضارب في الأهداف وفي سبل الوصول إليها وفي كونها أهدافاً تستحق عناء المحاولة، قد يقول بعضهم إن ما يحدث على الساحة الإعلامية الليبية هو الصحيح لأن العالم هكذا يراوح بين الإعلام المؤيد والإعلام المعارض حتى الدول العظمى التي وقفت فيها قنوات تلفزيونية بكل ثقلها مع أو ضد رئيس أو مرشح للرئاسة، يقول مأمون فندي في كتابه حروب كلامية: "أضف إلى ما تقدم أن ما نشاهده من إعلانات عبر شاشات التلفزة العربية ليس إعلانات تجارية، وإنما إعلانات سياسية شبيهة إلى حد ما بالأفلام الوثائقية الإعلانية في الولايات المتحدة أو الدعايات السياسية خلال الحملات الرئاسية الأميركية.

فالمحتوى الإعلامي يرتبط ارتباطاً مباشراً بالمال والملكية والنفوذ السياسي. وهذا ما يتضح لنا على وجه الخصوص عندما نتمعن في الموارد التي تنفق على وسائل الإعلام في مقابل عائداتها المالية. فالفجوة كبيرة جداً بين كلفة إنتاج وسائل الإعلام والمبالغ المالية التي تدرها الإعلانات التجارية. لكن هذه الظاهرة تصبح منطقية إذا ما علمنا أن وسائل الإعلام العربية أدوات سياسية بيد أصحابها وليست مشاريع مدرة للأرباح".

هذا في حال وجود الإعلانات التجارية أصلاً؛ إذ لا توافق يذكر في هذه الحال بين حجم ما تنفقه وسائل الإعلام وما تربحه، وفي دولة لا قوانين فيها تضبط إيقاع الحياة بكل مظاهرها يصبح الترقيع ديدن الكثيرين، باستثناء بعض المحاولات -التي لا يدعمها نفوذ السلطة- يظل المشهد الإعلامي مسرحا يئن ركحه تحت وطأة الكثير من السيء ويتوه في زحمته القليل الجيد.

"فعلى الصعيد التجاري البحت، يؤدي عرض القضايا الاجتماعية إلى إثارة القلق في نفوس جماهير المشاهدين أو القراء. أو هكذا يعتقد الدارسون لسيكولوجية الجمهور. لذا يحرص رعاة البرامج التلفزيونية أو ممولوها عملاً بمبدأ السلامة، ومن أجل الاحتفاظ بأكبر عدد ممكن من جمهور المشاهدين، على استبعاد أي برنامج يشتبه في احتوائه على مادة (خلافية) أو مثيرة للجدل" هذا رأي روبرت شيللر في كتابه المتلاعبون بالعقول منذ العام 1978.

ومؤخرا ظهر من يتبنى هذا النهج في محاولة -قد تنجح- لجذب المشاهدين وذلك بالابتعاد عن كل ما ينفرهم أو يجعلهم يذهبون بعيداً حيث قد تتربص بهم أطراف أخرى، لذلك تتوخى بعض وسائل الإعلام الحذر الممزوج بشيء من "تنازل" عما تعتبره ثوابت، وهو كذلك، لكن في الوقت المناسب.

أما عن الحضور السياسي في المشهد الإعلامي فتظل السياسة سيدة المواقف وصاحبة الحضور الأكثر أثراً في الإعلام، إنها المحرك لكل شيء تمتد بأذرعها الأخطبوطية لتتحكم في الاقتصاد وفي الأمن وحتى في رغيف الخبز الذي يسمن ويغني من جوع، فما الدور المحوري الذي تلعبه السياسة في المشهد الإعلامي وهل نملك إعلاماً قادراً على تغيير المعطيات السياسية على المديين القريب والبعيد؟.

بنظرة سريعة على بعض وسائل الإعلام الليبية المختلفة سنلاحظ أن السياسة هي ما يؤثر في الإعلام وليس العكس، نحن لا نملك قاعدة إعلامية قادرة على التأثير بعد، قد يكون افتقارنا للتراكم الذي قضت عليه دكتاتورية الإعلام طيلة عقود أو ربما لأن الإعلام أصبح مثل الملجأ الكبير الذي يضم الكثيرين ممن استسهلوا الخوض في كل ساحاته دون أدنى معرفة بأبسط قوانينه وأسسه، لكن المرحلة المفصلية التي تمر بها البلاد تحتاج هزة حقيقية ليصبح الإعلام بكل ضروبه مشاركاً أساسياً في العملية السياسية وشريكاً حقيقياً لصناع القرار وداعماً لمعارضيهم إذا كانوا أصحاب حق وأرباب قضية.