Atwasat

حكايات عن خليفة الفاخري

سالم الكبتي الأربعاء 02 يونيو 2021, 02:40 صباحا
سالم الكبتي

(وإني أموت ولا لن أموت
وسوف أقاتل
وسوف أظل
ليولد حق ويزهق باطل)
سميح القاسم

(1)
يقول ونيس الفاخري:
في البداية كنا نسكن في شارع الشويخات إلى عام 1951 ثم في شارع علي الوحيشي إلى عام 1961. ثم في شارع أسنيدل إلى عام 1964 ثم انتقلت الأسرة إلى ضاحية سيدي حسين بعد أن قمنا ببناء قطعة أرض اشتريناها أمام المقبرة هناك. خلال ذلك ظل خليفة شقيقي في منزلنا السابق بشارع أسنيدل لمدة ستة أشهر. وعرف البيت لدى الأصدقاء ببيت الأشباح. كان بيتنا دائما يمتلئ بالصحاب وحفاظ القرأن الكريم الذين يترددون على والدنا الحاج محمد الفاخري في زيارات متلاحقة.
إن (سي عمر) بطل قصة العذاب التي كتبها خليفة عام 1968 أحد أخوالنا وهو من آل بن زبلح في بنغازي. كان يقيم وحيدا في دكان مجاور وبعد وفاته أضحى الدكان جزءا من بيتنا وقطعة من مربوعة خليفة.
في يناير 1964 تأثر خليفة كثيرا لأحداث الطلبة والمواجهة مع قوات البوليس وسقوط قتلى وإصابة العديد بالجروح والكسور. ظل مسكونا بالحزن إلى درجة الانفجار والغليان. أقول لك كان ينوي القيام بعمل ما. اقتنى مسدسا اشتراه شخصيا. وذات ليلة بعد الأحداث فزعنا وقمنا من نومنا عندما سمعنا انطلاق ثلاث رصاصات وجهها خليفة صوب كلمات كتبها على جدار مربوعته، كما كتب لاحقا قصائد وهدأت نفسه الثائرة.. إلى حين.

(2)
يقول مفتاح الدغيلي :
عرفت الصادق النيهوم في بداية الخمسينيات الماضية (1950 _1951). كنا زميلين بالدراسة الثانوية أيام نظام الخمس سنوات. كنا ندرس بمدرسة الأميرة سابقا قرب الملعب البلدي القديم. كان الصادق ذكيا ويتولى تلخيص الكتب والمراجع الأدبية في الحصص بتكليف من أساتذة اللغة العربية بالمدرسة وبحماس ومبادرة منه. ثم افترقنا عندما غيرت تخصصي إلى القسم العلمي. لكن صداقتنا استمرت. كنت أتردد على سوق الحشيش. أحضر إلى هناك من بيتنا الواقع في زقاق الضراط قرب الفندق. وهناك في السوق عن طريق النيهوم تعرفت على خليفة الفاخري وعبد الرحيم فايد ومحمد البعباع وابريك الأشهب.... وغيرهم.

في الخمسينيات الماضية كان خليفة الفاخري لم يزل طالبا في مدرسة الأمير. لم يلتحق بأي عمل بعد. كان أحد أصدقاء الصادق. فارق العمر بينهما ليس كبيرا لدرجة ملحوظة. كان الفارق في السن لا يتضح في الغالب بين سكان الشارع الواحد أو الحي الواحد في ذلك الوقت. الجميع يعتبرون أخوة وزملاء وجيلا واحدا.

استمرت الصداقة بيني وبين النيهوم والفاخري بلا انقطاع .كنا نلتقي في براكة أقمناها على شاطئ قاريونس خلال أيام الصيف. كان الصادق طالبا في الجامعة وخليفة شرع في عمله طباعا بالمجلس التشريعي البرقاوي. ومعنا باقي الأصدقاء: محمد الوسيع (الهفكه) وعبدالحميد معتوق وأبوبكر العنيزي وغيرهم. ثم تواصلت العلاقة في جليانة وعبر الرحلات ونشاط الأندية والتردد علينا وعلى الأسرة في بيتنا. وأكاد أقول بأن خليفة عرف المتنبي عن طريقي. كنت مغرما بذلك الشاعر وأحفظ أغلب قصائده. وأنا أول من أعار ديوان المتنبي لخليفة عام 1958 وقد أعجب به وبشعره وحفظه بالكامل .

(3)
يقول محمد كانون:
خليفة الفاخري شئ آخر. فنان وصديق لا يضاهى. اقتربنا من بعضنا أصدقاء مبكرا في بنغازي وتشاركنا في هموم الناس والوطن وقضايا الثقافة والفكر. تلك الأيام كانت الأندية مجالا خصبا للحراك الثقافي والعطاء الفكري. كنا في اللجنة الثقافية بنادي التحدي في مقره الضيق القديم. لكنه اتسع وكبر بنشاطنا الفني والثقافي. بذلنا جهودا وحبات عرق نبيلة في النشاط المتكامل عام 1965. أصدرنا صحيفتين حائطيتين هما المتنبي والرأي. ألقى خليفة محاضرة رائعة عن المتنبي. أعددنا ونفذنا الكثير من المسرحيات قمت بأإراجها. في مقدمتها مسرحية (الشيطان يعظ) لتوفيق الحكيم. قام خليفة بدور الشيطان. والفنان طاهر عمر بدور المرأة وحلقا في أجواء رائعة من خلال الدورين. وقام فتحي إسويري بدور الحكيم. أيام الأندية والصداقة والثقافة والفكر.

(4)
يقول عبدالقادر البعباع :
في يناير 1964 شعر خليفة بالقهر لكنه صاح بالشعر:
(يومنا الرابع عشر من يناير
دفق أنشودة نصر..
في الحناجر.. تتحدى كل غدر.
كل كافر بزغاريد الحياة)
والقصيدة طويلة. تألم لمصرع بعض الطلبة. كانوا من الجيران في المنطقة إضافة إلى الجرحى. هذه القصيدة أنشأها خليفة عندما زرنا سالم بوشريدة أحد الطلبة المصابين وكان نزيلا بمستشفى الأدفنتست وسلمها له على فراش المرض. خليفة يكتب عن تجربة وليس من تهويمات الفراغ والخيال والمحاكاة.. والكذب
(5)
يقول الصادق النيهوم في رسالة إلى خليفة مؤرخة في 8 يونيو 1966:
.. فهل تحب أن تسمعني أبكي؟ أنا في حاجة إلى ذلك لكي أقول لك مدى الجحيم الشعري الفخم الذي تحمله رسائلك إلي. إنها عمل من أعمال الله الذي يحلم به الأوغاد الصغار فوق جرائدنا اليومية ثم يجمعون ابتسامات المعجبين في جيوبهم فيما هم يقومون بنزهة الساعة الخامسة وليس بينهم موهبة حقيقية مثل خليفة. إن الأمر لايصلحه الكذب ولايقتله الحزن وأنا لست ناقما عليهم. ولكن أتمنى أن تتاح لهم فرصة لمعرفة ذلك وأنا لا أعرف ما الذي يجب أن أقوله لك الآن. ولكني أحس بالسخط تجاه هدوئك العظيم. فليملأ الله قلبك بالغرور. ليجعلك تخبط رأسك في الحائط وتنشب مخالبك في وجه أول الأوغاد ثم تأكله. فإن ذلك وحده هو الذي سوف يقنعك بالثورة ويفتح الطريق أمام عيون كلماتك الحلوة ويعطي بلادنا كاتبا وقورا. رسائلك إلي تحفر قلبي.
إن شعبنا يحتاج إلى مواهب جديدة أكثر من سواه. فالكلمات ميراث للجميع وزحام لابد منه.

(6)
يقول صديقك عبدالوهاب البياتي:
(كذبوا .. وما صدقوا
لأنهم تنابلة وعور)

(7)
تقول أنت في نبوءة قديمة تاريخها 26 أكتوبر 1968 :
سيضيق في عينيك الطريق.. ويضيق. ويضيق. ويطفح الأسى على جدار قلبك مثل طحالب بليدة وتغتم السماء على نحو حالك دون أن ينهمر المطر وتحبل أجفانك بدمعتين هادئتين.. وتجوب خطاك المتلعثمة دوامة الدروب بلا صديق. ويضيق الطريق!
_ أريد أن أرى الأيام في مرآتك.. هل يمكنني هذا!
ستقول لك المنجم العجوز.. أنت من بنغازي. أليس كذلك؟.
_ أتسمع. إن بلادك ستصبح مثل غابة. تماما مثل غابة حتى أنك ستظل تحلم بالذئاب بلا انقطاع فيما تصدأ على شفاهكم كل الكلمات الصادقة وإني أرى الأن أحد الرجال يقتل على الرصيف مثل كلب ضليل لأنه قال كلمتين صادقتين في قاعة المحكمة وسيقتل مثلما قلت لك تماما. حسنا وثم رجل سيأتي إلى المحكمة في نفس القضية وسيقول كلماته بشجاعة وجرأة ولكن الذئاب ستمزق جسده أمام بيته في اليوم التالي.. وتخرسون جميعا.

(8)
وتساءلت في قصة (النوارس):
_ هل تعرف أن تقلد صياح النوارس؟
فزع الرجل البدين ببصره باحثا في القاعة عن مقعد آخر. لكن الرجل الأبيض الشعر فرد ذراعيه كجناحين. وأضاف:
_ هذا سهل للغاية. اسمع: واك. واك. واك!!!
.. ولم يكن الرجل الأبيض الشعر شخصا آخر غيرك أنت.

(9)
يقول سميح القاسم :
فحاول وحاول
لماذا تجادل؟ وكيف تقاتل؟
سترجع من حيث جئت. ومعذرة سيدي لانريدك
مزورة يا صديقي نقودك
وخاو بريدك
ومعد وجودك
فمعذرة .. لانريدك!
تنهدت بكل حسرة. سجلت القصيدة بصوتك كاملة. كانت ملحمة عنوانها (شخص غير مرغوب فيه) وقلت لصديقك الذي معك بأنك تشعر بأن القصيدة لسان حالك ومهداة إليك!

(10)
خرج خليفة الفاخرى من قبره ذات ليلة.. وصل إلى المدينة. تجول في شوارعها. كانت في هدوء تام.. سوى من صوت إطلاقات نارية بين حين وآخر.. بعض أهلها نيام. القمر من بعيد يتراءى فى خجل وثمة كلاب تنبح بلا انقطاع.
لم يلحظ خليفة الفاخرى أي تغير يشاهده رغم مضي فترة بعد وفاته.. الميادين والأزقة.. الشوارع.. الأعمدة المائلة.. أكوام القمامة.. أوراق الإعلانات على الحيطان من دون ذوق.. خرق اللافتات والشعارات الممزقة من أثر الريح.. محطات الوقود المغلقة.. وكذا حوانيت الحلاقين.. وكل شى آخر.
ظل يمشي بتؤدة.. لامس شيئا بقدميه.. انحنى.. التقطه.. عرف أنه صحيفة باهته تصدر في المدينة. نظر فيها مليا. قلبها وجها وقفا.. الكتّاب أنفسهم.. المنظرون.. الفلاسفة.. كانوا يجيدون النفاق ونقر الدرابيك.. والرقص على المياه والحبال.. ارتدوا مسوح النبل والشهامة والوطنية والثورية.. وركبوا الرياح الجديدة.. لكنهم سيظلون دائما عكس اتجاه الريح الحقيقية.
_ (يا إلهى.. لم يتغير شيء.. القمامة وبعض الصحف.. عطّهم دعوه)..
_ (المرتزقة والببغاوات.. هم قمامة الثورات..)
بصق خليفة الفاخرى بملء فمه.. غدا العالم قبيحا.. وظل القمر يتوارى فى الأفق البعيد.
.. وقال خليفة الفاخرى إن القبر أفضل من حياة تنبح فيها الكلاب بتواصل آخر الليل.. وكتابات قراءتها.. خيانة.
.. الحياة يا أوغاد معكم حرام.. وعاد إلى قبره فالموت أسلم!.