Atwasat

مواعِظُ ضارة

صالح الحاراتي الخميس 28 يناير 2021, 05:13 صباحا
صالح الحاراتي

يقال أن المَوْعِظَةٌ هى النُصح والدعوة إلى السِّيرة الحسنة الصَّالحة، ويفترض أن يكون دورها دور المنبه للضمير والتذكير بالمسؤولية .

والمَوْعِظَة عندما يلقيها نبي أو أحد الفقهاء أو رجال الدين، عادة ما تحتوي على ما جاء فى الدين من إرشادات، أو التذكير ببعض المباديء والقيم .ويقال أن خطبة الوداع للرسول الكريم محمد عليه السلام تعتبرأشهر عظات الإسلام.. وعظة الجبل ليسوع هي أشهر عظات المسيحية.

هذه لمحة لما يقال فى تعريف الموعظة قبل الولوج إلى عالم الواعظين .

لو تأملنا وفكرنا لإي أن الشهر به (4 من أيام الجمعة) والسنة بها (48 يوم جمعة) فلك أن تحسب كم خطبة جمعة مرت علينا منذ أكثر من 1400 سنة، وكم من المواعظ التى ألقيت فيها على أسماع الحاضرين، وما هى نتائج كل ذلك.
فى زماننا..يقول البعض أن المواعظ فى خطب الجمعة والبرامج الدينية على المحطات المسموعة أو المرئية صارت بلا تأثير، بسبب تكرار نفس الكلام ونفس المواضيع، بل وبنفس العبارات المكررة منذ قرون . وأنا، على عكس ذلك، أرى أن لها تأثيرا كبيرا جدا، ولكنه تاثير سلبي!.. لماذا نٌصِفُه بالتأثير السلبي .. لأن الواعظ لا يتيح لك أن تتساءل وتتأمل ما يقول، يقدّم لك قناعاتٍ جاهزةً، وأقوالًا خارج سقف النقد والمناقشة.. ولذا فإن تفشي ذلك الخطاب الطوباوى سينتج حتما عقلًا منغلقًا متحجرًا، يفسر كل شيءٍ بشيءٍ واحد، ويبث وعودًا وأحلامًا رومانسيةً، منقطعةَ الصلة بالواقع، كل ذلك أنتج مفاهيمَ وشعاراتٍ، أصبحت معتقدات ومسلمات راسخة، مسيّجة بأسوار مقفلة، وكأنها سجون يعيش بداخلها أتباعٌ متمترسون داخلها، ولا يطيقون العيشَ خارجَها، كل ذلك ساهم فى إنتاج حالة من الضغط النفسي، وأدى إلى ما يمكن أن نسميه "حالة انفصام شخصي ومجتمعي".. أي أن غالبية الناس، ومن غزارة وتكرار الخطاب الطوباوى الذى يرتكز على الجوانب المثالية التى يصعب تطبيقها فى الواقع، أصبحوا يعيشون حالة من الانفصام، بحيث نرى البعض يردد كلاما يعلم مسبقا أنه غير قابل للتطبيق، بينما يتصرف بسلوك مغاير لما يقول.. إنها حالة تنسحب على "الواعظ " نفسه، ثم تنعكس الحالة على رجل الشارع، حتى تصل المثقفين أيضا .
يقول عالم الاجتماع العراقى د.على الوردى :

"‏من العجيب أن نرى بين مثقفينا من يكون ازدواج الشخصية فيه واضحاً؛ فهو تارةً يحدثك عن المثل العليا وينتقد من يخالفها، وتارة يعتدي أو يهدد بالاعتداء، ضارباً عرض الحائط بتلك المثل التي تحمّس في سبيلها قبل ساعة"! .

حوادث ووقائع عديدة كشفت أن سادة الخطاب (الدينى الطوباوى) ليسوا معصومين، فهم يعيشون حالة من الازدواجية ومن الانفصام، رغم أنهم لا زالوا مستمرين فى طريقتهم العقيمة ويظنون أنهم يحسنون صنعا ويقدمون خدمة جليلة لنصرة الدين الذى يؤمنون به، والحقيقة أنهم يساهمون فى استمرار حالة الانفصام المجتمعى القائمة وتجذرها، ولذا صح القول بأن المواعظ الضارة كالأعشاب الضارة فى الحقل .

إن التناقض بين القول والعمل ظاهرة خطيرة، خاصة لدى المشتغلين بالوعظ والتوجيه وتنظيم حياة الناس من دعاة وكتاب ومفكرين، فهم لايسلمون من الوقوع فيها.. ربما بسبب عدم اقتناع حقيقي وصادق بما يقولونه ويبشرون به، أي بمعنى أن لسانهم يناقض ما هو مقرر وراسخ في عقولهم .

فى عالم السياسية الأمر أكثر وضوحا حيث نجد مثلا.. سياسيا يخطب في الناس عن الديمقراطية والحرية وأفعاله عكس ذلك تماما، ورجلا ينتقد السلطة على ممارستها للاستبداد بينما هو يمارس الاستبداد فى بيته وفى عمله ولا يستمع ولا يعتد برأي غيره أو يحترمه.

ولذلك يبرز أمر مهم، وهو أن نفتش في دواخلنا عن سبب تناقضاتنا مجتمعياً وسلوكياً وتصعيداً في كل قضية تظهر بين الحين والآخر، حيث مجتمعنا يبدو على المستوى الشكلي والظاهري به مسحة من التمدن وشىء من الحداثة، هذا أمر ممكن، ولكن على مستوى جوهر الأفراد والأفكار مازال هناك وفرة من الغارقين فى مستنقع الوهم والماضي، وأسرى للأفكار المحنطة، وهو ما انعكس واقعيا من خلال ظهور الكثير من التناقضات فى حياتنا، كأن تقابل شخصا يدعي التدين "شكليا" وهو نصاب كذوب! أو يدعي التمدن والحداثة وهو جهوي حتى النخاع!.

ليس جميع الناس من إذا شعر بالتناقض في سلوكه يعيد حساباته، ويسأل نفسه ذات السؤال.. لماذا أنا متناقض؟. فهناك من يدعي المثالية فيناقضها في موقف.. ومن يدعي الصدق فيناقضه في مواقف أخرى... يدعي الصدق والشهامة والإنسانية ومواقفه في الحياة على العكس .

ولذا وجب على كل عاقل أن يحد من عالم التناقض بداخله، ويبتعد عن التفكير بالشكل العاطفي الرغبوي .

التناقض بين الكلام الجميل البراق، والممارسة الفعلية هى حالة انفصام "شيزوفرينيا"، وتبدو غالبا مترافقة ومتوافقة مع "أنا متضخمة".. بلا فكر وﻻ آيديولوجيا وﻻ أخلاق .
تذكرت قول شوقى :
مُخطِئٌ مَن ظَنَّ يَوماً أَنَّ لِلثَعلَبِ دينا
يكفى هذا… حتى لا أقوم بدور الواعظ أيضا !!